عندما وجه الرئيس مسعود بارزاني رسالته الى الرئيس الامريكي دونالد ترامب، وقال: (الدماء الكوردية أغلى وأثمن من المال والسلاح). أراد من الأمريكان المساهمة في منع دخول المنطقة في ازمة أشد فتكاً من كل الأزمات، أزمة تؤدي الى الخراب والدمار ونتائج غير متوقعة، تصب في خانة إلحاق الخسائر بالجميع، وأراد تذكير العالم بثمن وقيمة الدماء الكوردية.
البارزاني كان على يقين بأن الخارطة السياسية للمنطقة تعيش أحرج مراحلها، وتتجه نحو التغيير وتعاظم ميل التوازنات لصالح البعض على حساب البعض الآخر، والمنطق والعقل يدعوان الى الحفاظ على المصالح الإستراتيجية والعلاقات الإنسانية بين مكونات وشعوب المنطقة ووضعها في مقدمة الأولويات. وأراد البحث عن الحلول السياسية والعملية السهلة، وطرح وجهات النظر غير المستعصية بخصوص معالجة المشكلات المزمنة والتعامل مع المتغيرات المستقبلية بعقلانية، والتوصل الى حلول. وكان يتوقع المواجهات الدامية بين الكورد في غربي كوردستان (أي شمال وشمال شرق سوريا) والقوات التركية.
رسالة الرئيس بارزاني جلبت الإنتباه وأثارت الإهتمام، ولكن ليس من قبل الرئيس الأمريكي، بل من قبل المدافعين عن حقوق الإنسان والحريصين على الأمن والإستقرار في المنطقة والعالم، عبر الدعوة الى العدول عن الإنسحاب المستعجل والمتعجل للقوات الأمريكية، وعدم إخلاء قواعدها ومعسكراتها، وعدم ترك من كانوا يوصفون بالحلفاء تحت رحمة المدفعية والطيران التركيين، والإلتزام بالوعود والتصريحات السابقة، أو بقسم منها. وجلبت إنتباه المصممين على الدفاع عن الأنفس والمكتسبات، وإنتزاع الحرية والتمتع بها، عبر إبداء المرونة والحوار والتفاهم، وحتى القبول بتمرير بعض المعالجات الجزئية والسطحية لمشكلات وخلافات معينة، ونبذ العنف والسعي الى التوصل الى الحلول المقبولة. وتم تجاهلها من قبل المتجاهلين للواقع وحدوده المعقولة، والخاضين لثقافة الإستعلاء والتسلط والعقلية الإستبدادية وسوء النية، والمؤمنين بأن العنف يصلح كوسيلة لمعالجة المشكلات.
أما تجاهل الرئيس الأمريكي لفحوى الرسالة، وتغريداته اللامبالية التي تدل على نقص كبير في الخبرة والدراية بأمور السياسة وموازين القوة العسكرية والمثيرة للسخرية لدى الامريكيين وغيرهم، وفسح المجال امام القوات التركية للدخول الى المنطقة، وإستيلاء بقايا داعش والعناصر التابعة للتنظيمات المتشددة على اراضي شاسعة وواسعة، وعمليات القصف والقتل والنزوح الجماعي. فقد أظهرت، من جهة، الاخفاق المريع والفشل الذريع للسياسة الترامبية القائمة على لغة التجارة والدولار التي مهدت لإرتكاب أخطاء جديدة ربما أكثر فداحة من الأخطاء السابقة. وأظهرت، من جهة أخرى، وبالذات عندما غرد ترامب بشأن ما حدث في إكتوبر 2017، صواب عدم قبول الرئيس مسعود بارزاني بتأجيل الإستفتاء، وعدم ثقته بالوعود الأمريكية.
بعدما حصل في إكتوبر 2017، والإكتوبر الحالي، وفي ظل المتغيرات التى أنذرت، وتنذر، بتغيير الكثير من الأمور. نسمع دعوات وأصوات علنية تدعو الى قطع شعرة معاوية بين الكورد والأمريكان، وإلغاء الشراكة الصورية بينهما، والتفاعل مع الخطوات الإيجابية والواقعية الروسية والأوروبية وتثبيت الأقدام أمام المتغيرات الحاصلة في المنطقة، وتعبئة الطاقات وتنظيم وترتيب البيت الداخلي الكوردي لمواجهة كل الإحتمالات، والإستناد بثقة عالية وقناعة راسخة على شرعية المقصود والهدف. كما نسمع من يدعو الى إستنساخ تجربة أربيل التفاوضية مع بغداد، من قبل الكورد في غرب كوردستان واللجوء الى الحوارمع دمشق لوضع النقاط على الحروف حتى استنفاد كل الجهود التفاوضية والدبلوماسية معها.
بين هذا وذاك، وبين الحقائق والوقائع على الأرض (حسب وجهات نظر الكثير من المراقبين)، سيبقى الرئيس بارزاني، وكما عهدناه خلال أحداث الأعوام والعقود الماضية، متحلياً بالصبر والحكمة، وحريصاً على الدم الكوردي، وبناء السلام وإرساء الإستقرار والتعايش، وحماية الإنسان أينما يكون من المآسي ومن ويلات القتال والحروب. ومن منطلق (جادلهم بالتي هي احسن) يكثف تحركاته باتجاه وقف القتال والنزوح الجماعي والمآسي الانسانية.
كما نلمس إستحالة بقاء الأوضاع الحالية على حالها، وإستحالة مصادرة إرادة الملايين من الكورد. وهذا يعني ضرورة السعى إلى عدم تفويت الفرص الجيدة، واستثمارها في غلق الأبواب والنوافذ التي هبت منها العواصف المدمرة، وعدم وضع كل البيض في سلة واحدة..
مشاهدة 2713
|