مملكة وجمهوريتان، ومازالت الطبقة الحاكمة في بغداد تمارس ذات السياسة ضد الكورد، وتطلب منهم أن يكونوا عراقيين من العيار الثقيل، لكن وفق شروط بغداد، وليس وفق معايير المواطنة المتعارف عليها. يبدو ان سطوة السلطة والامكانيات التي تضعها في متناول رجالها، تدفعهم للغلو والتطرف حد الزوغان وعدم التمييز بين الصالح والطالح. "لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين"، لعل هذا الحديث أو المقولة تعد خير مفتاح لمخاطبة الطبقة السياسية الحالية التي تقود السلطة في بغداد. السلطات التي سبقت مجيئهم عام 2003 بقيادة صدام حسين، مارست شتى صنوف الضغط والقهر والتمييز والحصار ضد الكورد، وجرّبت خلال ثلاثة عقود ونصف العقد من حكمها وتحكمها بالعراق وقبل ذلك في عام 1963 شتى أنواع العنف المفرط لضرب القضية الكوردية وانهاء الوجود الكوردي، لكن أثبتت الأيام والسنين عقم مثل هذه السياسات المنافية للقيم والمبادئ الإنسانية والمواثيق الدولية، ليكون خاتمتها الفشل الذريع وانهيار الدولة. مع هذا نجد ان سياسيّو العهد الجديد مارسوا خلال العقدين الماضيين ذات السياسة ضد التطلعات الكوردية وحقوق شعب كوردستان ضمن اطار المواطنة، ضنا منهم بأن الضغط والتلاعب على وتر الخلافات الكوردية- الكوردية يثمر ويحقق ما يتطلعون اليه من تحجيم القضية الكوردية وقولبة شعب كوردستان ضمن اطار مواطنة أحادية الجانب اثنيا ببعديه القومي والمذهبي، تجاوزا وقفزا على حقيقة الخصوصية الكوردية والدفع بها نحو زاوية التهميش والاقصاء حد الاضطهاد.
صدام، او لنقل حزب البعث قارع الثورة الكوردستانية وهو يقود السلطة، لكن أثبتت الأيام عدم جدوى محاربة شعب يتطلع للتمتع بحقوق المواطنة أو الحقوق القومية الى أبعد مدياتها المتاحة، أسوة بالشعوب الأخرى وبضمنها الشعب الذي يشاركه الوطن، لذلك ركنت السلطات الى التفاوض مع القيادات الكوردية في أعوام 1970، 1983، 1991 أثمرت الأولى منها فقط عن ابرام اتفاق تاريخي عام 1970، لكن البعث وهو يفاوض القادة الكورد ويتفق معهم في العلن، كان يمارس في الخفاء المناورة ومداراة المشكلة لينهال عليها في أقرب فرصة متاحة، لأن تعامله مع هذه القضية لم يمكن من منطلق الايمان بعدالتها وبقصد أنهاء الصراع الذي أمتد منذ مجيء البريطانيين واحتلالهم العراق قبل أكثر من قرن وحتى الآن. التعامل مع القضية الكوردية كشأن وطني من باب الاحتواء والمناورة لم ولن يفضي الى الحل، بل يزيد من تعقيد القضية وتزايد تداخلات المشهد، وبموازاة ذلك يؤدي الى تراكم كم الخسائر بشقيها البشري والمادي يدفع فيها الطرفان (بغداد وكوردستان) فاتورة التكاليف الباهظة لهذا الصراع غير المجدي.
سقوط النظام الشمولي بضربة قاضية من التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة شكل انعطاف طيب وفرصة ثمينة لفتح صفحة جديدة من حيث نظام الحكم وفلسفة إدارة السلطة في الدولة العراقية، ومشوار البداية وخلفية المشهد الجديد يؤشران الى حقيقة ان النخب والقوى السياسية التي تقود البلد حاليا لم تكن تمتلك حتى موطأ قدم في الأراضي العراقية، الا الكورد اذ هم أسسوا كيانا سياسيا تم تأطيره من قبل برلمان كوردستان- العراق بالنظام الفيدرالي (الاتحاد الاختياري)، حيث اجبر المجتمع الدولي تحت غطاء القرار الأممي المرقم 688 قوات صدام عدم تخطي الخط الفاصل بين مناطق سيطرة الطرفين (القوات العراقية وقوات كوردستان)، وبذلك مارس الكورد أدارة نسبة 60% من مساحة إقليم كوردستان العراق والذي ضم محافظتي السليمانية ودهوك والقسم الأعظم من محافظة أربيل خلال 12 عاما (1991- 2003)، وهذا يعني ان السلطات الشرعية في كوردستان بقيادة الجبهة الكوردستانية ومن ثم برلمان كوردستان وحكومته الإقليمية بعد انتخابات عام 1992 طوال أكثر من عقد سبق مجيء السلطات العراقية الحالية. وعودة القوى السياسية المعارضة التي تقود البلد وتتحكم بمقدراته حاليا الى العراق، جاء بفعل العامل الخارجي، ولا ضير في ذلك ان أحسنت إدارة البلد وحققت النجاح المنتظر منه، لأن إزاحة صدام لم يكن متاحا لقوى المعارضة، خصوصا وأنه كان يتحكم بالعراق بقبضة من حديد.
كل هذا التاريخ المثقل بالعبر والدروس يبدو انه لا يجدي نفعا من قادة المشهد الحالي، غرور السلطة تدفع بأصحابها لارتكاب أخطاء شنيعة تنخر شيئا فشيئا جسد هذه السلطات حتى يتهاوى النظام في النهاية وهو غير مأسوف عليه. ان الحكومة العراقية الحالية تمارس عسفا مبالغا فيه ضد كوردستان، وتناوره بشكل غريب لتتهرب في النهاية من التعامل بروح المواطنة والمسؤولية الوطنية مع سكان إقليم كوردستان وتسعى لتطويق سلطاته الشرعية ومحاصرتها، ولا تسمح وهي تتعذر بالقوانين والدستور أن تمارس سلطات الإقليم إدارة شؤونه بشكل مستقل مثلما كان منذ عام 1991، وهي في ذات الوقت غير مستعدة للايفاء بحقوق سكان الإقليم. هناك تمييز وحرمان في التعامل مع مواطني الإقليم على مستويات عدة. هذا التمييز يجري تطبيقه من خلال ممارسة المراوغة مع وفود حكومة إقليم كوردستان وهي تزور بغداد في جولات مكوكية وتلتقي بممثلي الحكومة والقوى السياسية في مسعى من كوردستان لوضع آلية للتعامل بين الجانبين توفر الحد الأدنى من العدالة.
التحجج بتدقيق إيرادات الإقليم أو عدد موظفيه باتت عملية مقرفة، بل جعلت سلطات بغداد ذلك بمثابة قميص عثمان لأحراج حكومة الإقليم أمام مواطنيها من خلال عجز الحكومة عن تسديد رواتب المنتسبين. أنني أرى المشهد وكأن ممثلي السلطات الاتحادية في بغداد هم قضاة يحاكمون متهمين قادمون من إقليم عاص ومتمرد عن القوانين، فكلما لبي وفد الإقليم متطلبات السلطات الاتحادية من خلال تقديم البيانات والقوائم والمعلومات الدقيقة والموثوقة ضمن مسعى حكومة الإقليم للتوصل الى اتفاق يضمن حقوق الإقليم وسكانه، نجد ان متحدث من داخل الحكومة الاتحادية أو من خارجها يثير زوبعة من التصريحات هدفها منع تسديد الحكومة العراقية لمستحقات الإقليم وحرمان سكانه من حقوقهم الشرعية، بل تم تحويل أعلى سلطة قضائية في البلد الى أداة لمحاربة إقليم كوردستان وضربه.
من باب المقاربة نقول، وليس من باب التشكيك والاثارة، هل ان الحكومة الاتحادية تمارس ذات الدقة وبنفس الإصرار مع المناطق والمحافظات الخاضعة لسيطرتها من حيث الإيرادات المختلفة، وهل ان السلطات الاتحادية تتعامل بمهنية ووفق القانون مع الامارات التي تقودها بعض القوى السياسية وتتحكم بنسب غير قليلة من إيرادات البلد؟ لماذا تسدد الحكومة العراقية حقوق ومستحقات جميع المناطق والمحافظات التابعة لها من دون حسبان لمعايير الفساد المالي والإداري الضارب أطنابه في الكثير من مرافق السلطة والمتحكمين بمفاصلها دون تأخير؟ فيما تتهرب عن تسديد مستحقات إقليم كوردستان رغم دقة البيانات التي تقدمها حكومة الإقليم وتحرم منتسبي كوردستان من رواتبهم الشهرية؟
ان العراق يعاني بموجب بيانات المنظمات الدولية من فساد فاحش في مختلف مفاصل الدولة، إقليم كوردستان هو النموذج المشرق للعراق الذي كان حريا بسلطات الأخيرة الاستفادة من تجربته الرائدة. لكن يبدو ان قادة العراق اختاروا السير بالاتجاه المعاكس من خلال السعي لضرب الإقليم ومحاصرته ومحاولة اجباره الركوع لارادة قادة بغداد الحاليين. أكثر من قرن من عمر الدولة العراقية يقدم العديد من الدلائل والقرائن، بأن ركوع شعب كوردستان أمام (الطغاة) غير وارد، بل انه من المحال. "وذكّر عسى أن تنفع الذكرى"، مع انني أشك في قدرة النخب السياسية الحالية من حيث تحقيق النجاح في التعامل مع القضية الكوردية، لكن نقول وعسى ان يثمر القول عن خير مأمول، تعاملوا مع مواطنيكم في كوردستان من منطلق المواطنة، فهو الأجدى والأنفع لكم. والحقيقة المرّة التي لابد التصريح بها هنا، ان شمس هؤلاء مثل الذين سبقهم ستؤول الى الافول، وشعب كوردستان يبقى صامدا مثلما كان عبر التاريخ، ويتجاوز كدمات الضربات التي توجهها سلطات بلد قرر الآخرون دون ارادته، اجباره العيش ضمن حدوده.
مشاهدة 394
|