تلعب المحاكم الدستورية في الديمقراطيات الناشئة والمتطورة دوراً رئيسياً في ضمان سيادة القانون عبر الاحترام الكامل لمواد الدستور وضمان سيادة النصوص الدستورية للحفاظ على شرعية واستقرار النظام السياسي والحفاظ على التوازن بين سلطات الدولة. لذلك، تستند قرارات تلك المحاكم على مبادئ عدم الانحياز والنأي عن التجاذبات والمصالح السياسية المتناقضة، في إطار استقلالية القضاء عن السلطات الأخرى وخضوع السلطة القضائية نفسها للمراقبة والمساءلة.
وفي مراجعة تاريخية سريعة حول دور القضاء وسيادة الدستور و القانون في العراق، نجد ان تلك المؤسسات و المفاهيم كانت تخضع دوماً للسلطة الحاكمة، فيكتب القانون ويلغى ويفسر أويتم تأويله واستخدامه او تجميده بما يتناسب والمصالح السياسية للسلطة الحاكمة، ليتبلور كل ذلك و بشكل جليٍ في 1979، حين ألحق النظام الدكتاتوري مجلس القضاء بوزارة العدل بناء على المادة (10) من قانون رقم 101/ 1977 ففقد بذلك القضاء استقلاليته. وأستمر النظام البائد الاعتماد على محكمة الثورة والمحاكم الخاصة مما أدى الى اصدار أحكام تغطي على جرائمه السياسية، وثم جاء الحصار الاقتصادي الدولي الذي أدى الى انهيار اقتصادي شامل بعد احتلال الكويت 1990 فساهم في تفشي الفساد في كافة مؤسسات الدولة ومنها القضاء.
وبعد سقوط النظام في 2003، عاد التسيس المبرمج للقضاء والدستور والقانون، فلم يكن الدستور لدى سلطة بغداد سوى أداة تستخدم في الصراعات السياسية فتبرز تفسيرات أنية وقرارات وقتية لمواده بناء على نوعية الصراع السياسي القائم حينها، وتتطلب تطور بعض الصراعات تفسيرات متناقضة لنفس تلك المواد الدستورية، وكل ذلك من خلال أداة المحكمة الاتحادية العليا فأصبحت تلك المحكمة واحدة من الأدوات السياسية المهمة التي تستعملها القوى الحاكمة في بغداد للحصول على مكاسب حين لا تستطيع الحصول عليها بالطرق القانونية والسياسية والديمقراطية المتاحة.
وبانخراطها بالتفاعلات السياسية، اتخذت المحكمة الاتحادية قرارات متناقضة، وتفسيرات غريبة، وأصبحت تعطي المجال لنفسها لتكون مشرع ومفسر ومعلق سياسي وبدأت تصدر قرارات لها العلوية على النص الدستوري نفسه، فتجاوزت المحكمة صلاحياتها واصبحت تعرض كل الاحكام الدستورية لخطر التغيير حسب التوجه والمصلحة السياسية لطرف سياسيٍ معين على حساب جميع الأطراف الأخرى. وبذلك، أضحت تلك المحكمة جزءاً من ازمة النظام السياسي في العراق، وأسهمت في رسم أو تغيير خارطة المشهد السياسي في البلاد، فبدأت تصدر القرارات والاحكام ليس بما ويتناسب مصالح القوى الحاكمة وحسب، بل وحسب التوقيتات الدقيقة الملائمة لتحقيق اقصى المكاسب السياسية لتلك القوى على حساب قوى اخرى. وفيما يلي بعض الأمثلة على تلك القرارات:
- إصدار قرارين متناقضين بشأن الهيئات المستقلة. حيث حكم القرار المرقم ( 228 / اتحادية) في 2006، ان الهيئات المستقلة (مثل البنك المركزي العراقي)، لا تتبع أيا من سلطات الدولة وأنها مسؤولة أمام مجلس النواب. ثم أصدرت قراراً مناقضاً تماماً لذلك في 2011، ومن قبل نفس القضاة، فحكمت أن الهيئات المستقلة يجب أن تتبع السلطة التنفيذية، خلافا للمادتين (102 ،103) من الدستور، وخلافا لقرارها المذكور، لان ذلك كانت إرادة رئيس مجلس الوزراء حينها (نوري المالكي).
- قرار المحكمة الاتحادية 22/ اتحادية/ 2007 الخاص بعدم دستورية قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005، الذي حكم انتخابات مجلس النواب لعام 2005. فقررت عدم دستورية المادة 15/ ثانياً من قانون الانتخابات المتعلقة بآلية حساب المقاعد الخاصة بالمحافظات لتعارضها مع احكام المادة 49/ اولا من الدستور، ولكنها حكمت أن هذا الانتهاك لا يلغي نتائج الانتخابات لأن هذه الانتخابات جرت بموجب قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وبذلك فقد انتهكت المحكمة الاتحادية العليا، المادة 143 من الدستور، الذي ألغى قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية فاعتمدت عليه في التحكيم حول انتخابات جرت بعد الغائه.
- إقرار تفسيرين متناقضين لنفس المادة الدستورية، كما في قرارها (2/اتحادية) في 2010 حول تفسير المادة (76) بخصوص مرشح الكتلة الأكثر عدداً فسرت المحكمة الكتلة النيابية الأكبر بالكتلة البرلمانية المشكّلة في الجلسة الأولى من دورة مجلس النواب الجديدة وليست بالضرورة الكتلة الانتخابية الفائزة والمرشح هو مرشح الأكبر منهما، وبهذا قلبت المحكمة مفاهيم دستورية استقر عليها الرأي في الأنظمة البرلمانية التقليدية، مثل في بريطانيا وألمانيا، ووضعت تفسيراً للكتلة الأكثر عدداً لمصلحة نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء حينها فحصل من خلالها على الولاية الثانية رغم انه لم يكن الكتلة الفائزة. ثم عادت المحكمة وأطلقت تفسيراً مغايراً تماما لنفس المادة ونفس الموضوع في شباط 2022، من خلال قرارها (9 و 10/اتحادية).
- قامت بإضافة صلاحيات لها ومن ثم الغاء صلاحيات أخرى بدون مسوغات قانونية واضحة. حيث أصدرت قرار رقم 37/ اتحادية/ 2010، نصت فيه أن اختصاصاتها تشمل الاختصاصات الواردة في القانون رقم 30/2005 والاختصاصات التي أقرها الدستور. ثم عادت لتتنازل بعد ذلك، عن صلاحية النظر في الطعون الخاصة بالقضاء الإداري الوارد في القانون رقم 30/2005.
- إصدار قرارين متناقضين حول صلاحية تشريع القوانين من قبل مجلس النواب. فقررت المحكمة في 2011، عدم جواز إصدار القوانين بناءً على مقترحات القوانين، بل لا يصح إصدارها إلا بناءً على مشروع قانون تُعده السلطة التنفيذية حصراً، أي لا تشريع إلّا بمشروع قانون ولا تشريع إلّا بموافقة السلطة التنفيذية لأن مشاريع القوانين لا تقدم إلّا عن طريق السلطة التنفيذية، وبموجب ذلك تم إلغاء العديد من القوانين والتشريعات التي سنّها مجلس النواب واصبح مجلس النواب لا يمتلك صلاحية تقديم مقترحات قوانين من دون موافقة الحكومة، في قرار يعتبر الاغرب من نوعه حيث سلبت المحكمة الاتحادية مجلس النواب من جوهر صلاحياته إرضاءً لنوري المالكي رئيس مجلس الوزراء حينها. ثم عادت المحكمة لتنقض بنفسها ذلك الحكم وتقرر في إعادة صلاحية تقديم مقترحات القوانين في 2015.
- إصدار قرارين متناقضين حول الجهات التي لها صلاحية طلب تفسير دستوري، فقد رفضت في 2011 و 2013، طلب تفسير دستوري قُدِم من أحد النواب ، وبينت ان سبب الرفض يأتي لإن (طلب تفسير دستوري) يجب ان يقدم من قبل رئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس النواب ،أو أحد نائبيه ،او رئيس مجلس الوزراء او أحد الوزراء، فهم حصرا من يحق لهم طلب تفسير دستوري. ولكنها عادت ونقضت قرارها بنفسها في 2017 وقبلت تقديم طلب تفسير دستوري من قبل الامين العام لمجلس الوزراء العراق.
- اصدار قرارات ضد تطلعات المواطنين بمكافحة الفساد، فقد أصدرت المحكمة القرار (119 /اتحادية) في 2016 وإعادة نواب رئيس الجمهورية (من ضمنهم نوري المالكي) الذين أقيلوا بقرار من حيدر العبادي رئيس الوزراء حينها، الذي استجاب في قراره لمظاهرات شعبية عارمة نددت بالفساد السياسي، فجاء قرار المحكمة ضمن توقيت أُعتبر أنه إعادة تأهيل سياسي لهؤلاء السياسيين، رغم أن قرار رئيس الوزراء حينها كان مبرراً وسليماً من الناحية الدستورية والقانونية.
- إصدار قرارات متناقضة تماماً حول تفسير المناطق المتنازع عليها في المادة 140. فكان قرارها الأول (11/ اتحادية) في 2013، بانها لا تختص بإعطاء الرأي بشأن المناطق المتنازع عليها. لكنها عادت وأصدرت تفسيراً مسيساً تماما في قرار رقم 113(/ اتحادية) في نوفمبر 2017 نسفت فيه كل التفسيرات المعتمدة منذ 2004، والغت محتوى المادة 140 حيث وضعت مفهوماً ملتوياً ومختلفاً تماما عن ما ورد في المادة فعرفت المناطق المتنازع عليها بانها "تلك الأراضي التي كانت تدار من حكومة إقليم كردستان بتاريخ 19/ 3/ 2003". ثم عادت المحكمة بعد ثلاثة اشهر ونصف تقريبا لتنقض قرارها بالكامل وتقرر "أن المناطق المتنازع عليها هي التي لم تكن تدار من قبل حكومة إقليم كردستان في 19/ 3/ 2003 الواقعة في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية، وكركوك، وديالى ونينوى." وبذلك اتخذت المحكمة الاتحادية موقفاً سياسياً بحتاً حسب طبيعة الصراعات السياسية ومتغيراتها.
- تدخلها الصارخ في تفاعلات ومفاوضات سياسية بحتة حول تشكيل الحكومة بعد الانتخابات المبكرة في أكتوبر 2021، فأصدرت عدة احكام وقرارات رجحت من خلالها قوى سياسية معينة على حساب أخرى ، وكالتالي:
ـ قرارها برفض ترشيح مرشح الحزب الديمقراطي الكوردستاني هوشيار زيباري، ضمن تحالف إنقاذ وطن، وبدون مسوغ قانوني صحيح، ليصب ذلك في صالح قوى الإطار التنسيقي.
ـ ردت دعوى لحل البرلمان تقدم بها التيار الصدري وأطراف سياسية مستقلة في (7 أيلول 2022) مستخدمة فكرة "عدم الاختصاص"، وصب ذلك في صالح قوى الإطار التنسيقي، وكذلك، فقد رسخت لعرف قانوني جديد الا وهو ان تجاوز المدد الدستورية ليس كافياً لحل البرلمان، أي ان انتهاك الأحكام الدستورية لا يترتب عليه أي جزاء.
ـ تفسيرها لنصاب انتخاب رئيس الجمهورية، والقاضي بانعقاد مجلس النواب بثلثي عدد أعضاء مجلس النواب.
ـ أصدار احكام متناقضة حول موضوع النفط والغاز في إقليم كوردستان. فقد أصدرت قرارا يوم 15 شباط 2022 ضد قانون النفط والغاز في إقليم كوردستان وجاء توقيت القرار في أوج التفاعلات السياسية لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات المبكرة في أكتوبر 2021، حيث كان الحزب الديمقراطي الكوردستاني يخوض مفاوضات تشكيل الحكومة كجزء من التحالف الثلاثي مع التيار الصدري والسيادة مقابل الإطار التنسيقي فكان قرار المحكمة في هذا التوقيت خطوة سياسية واضحة بالضد من منافسي الإطار التنسيقي. وجاء قرار المحكمة مستعجلاً وركيكاً يحمل الكثير من التناقضات، ومنتهكاً لأحكام عدة مواد دستورية حيث لم يميز القرار بين السلطات الحصرية والسلطات المشتركة الواردة في المواد 110 و 111 و 112 و 115، و121/ أولا. كما وناقض قرار المحكمة الاتحادية ثلاث قرارات سابقة أصدرتها المحكمة الاتحادية نفسها. ففي القرار رقم 25/ اتحادية/ 2008 قررت المحكمة أن استقراء مواد الدستور "يشير إلى صلاحية مجلس المحافظة بسن التشريعات المحلية وتنظيم الشؤون الإدارية والمالية بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدا اللامركزية الإدارية والتي تمنحها المادة 115 الأولوية في التطبيق". وفي القرار رقم 6/ اتحادية/ 2009 قررت أنها من استقراء المادة 115 من الدستور تجد أن "الأولوية في التطبيق تكون لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة التعارض بينهما، ما لم يكن قانون الإقليم والمحافظة غير المنتظمة في إقليم، مخالفا للدستور وذلك فيما يتعلق بالصلاحيات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم، ولا يعتبر القانون الذي سيشرعه مجلس المحافظة معدلا أو لاغيا للقانون الاتحادي". وفي قرارها رقم 8/ اتحادية/ 2012 حول المادة 112/ أولا انتهت إلى أن الدستور "أشار إلى أن إدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول من قبل الحكومة الاتحادية مع حكومات الأقاليم والمحافظات، ولكن حدد ذلك بصدور قانون ينظم ذلك"، وبالتالي "تكون احكام المادة موقوفة حاليا إلى حين تشريع القانون الخاص بذلك والذي ينظم أحكام هذه المادة".
ـ أصدار قرارات متناقضة ومجحفة ضد مكون معين – الكورد-، وبصورة تلامس وبشكل مباشر قوت المواطن. فقد أصدرت قراراً في 25/1/2023، يقضي بإلغاء جميع القرارات التي أصدرتها الحكومة العراقية والمتعلقة بإرسال سلف مالية الى اقليم كوردستان لتغطية رواتب موظفي إقليم كوردستان. حيث شمل الحكم عدم صحة القرارات الصادرة من قبل مجلس الوزراء المرقمة ((194) في 15/6/2021 و (226) في 6/7/2021 و(257) في 3/8/2021 و (335) في 22/9/2021 و (401) في 2/11/2021 و (8) في 11/1/2022). حيث اعتبر اغلب الخبراء القانونين ان هذا القرار ينطوي على جنبة سياسية كبيرة، وغير دستوري، لأنه يهدف الى تجويع جزء من الشعب بينما يضمن دستور العراق الفدرالي الاتحادي حقوقا متساوية لأبناء الشعب العراقي. كذلك، من المفروض انه من المهام الأساسية للمحكمة الاتحادية العليا حماية الحقوق والحريات، وأن تدافع عن المبادئ الدستورية وتحمي حقوق المواطن أينما كان، ومهما كانت قوميته أو دينه أو مذهبه.
والادهى من كل التناقضات والتفسيرات المختلفة والمواقف التي أصبحت سياسية أكثر منها قانونية او قضائية، فان هناك جدلاً قانونياً كبيراً مشككاً بشرعية ودستورية المحكمة الاتحادية الحالية وبالتالي بطلان جميع القرارات والاحكام الصادرة عنها حسب المادة (13) ثانياً من دستور 2005.
فقد تشكلت المحكمة الاتحادية العليا بعد سقوط النظام في 2003، وفق المادة (44) من قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية، لسد الفراغ القضائي الذي صاحب مرحلة ما بعد 2003. ثم شرع القانون رقم 30 لسنة 2005 الصادر في 17 آذار 2005، لتعمل من خلاله المحكمة الى حين صدور دستور جديد للعراق، وفعلا تم الاستفتاء على الدستور الجديد في اكتوبر 2005 ودخل حيز التنفيذ في 20 أيار 2006. وحدد الدستور صلاحيات واليات تشريع قانون المحكمة الاتحادية وحدد ملامحها بشكل مغاير تماماً لما تضمنه قانون رقم 30/2005. فالمادة 92/ ثانيا من الدستور قررت أن تتكون المحكمة من «عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب».
لذلك، كان واضحاً للجميع ان المحكمة الاتحادية العليا القائمة بموجب القانون رقم 30 لسنة 2005، الذي استند الى المادتين (43 و 44) من قانون الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004، مختلفة تماماً من حيث التشكيل والاختصاصات والتكوين عن المحكمة الاتحادية المقصودة في المادتين (92 و 93) من الدستور الدائم وان استمرارها في القيام بمهامها وهي غير مشكلة طبقاً للأحكام الواردة في دستور 2005 النافذ يفقدها الحق بممارسة اختصاصاتها ويترتب على ذلك عدمية القرارات والتفسيرات الصادرة منها طبقاً للقواعد القانونية العامة. لذلك كان من المفروض تشكيل محكمة اتحادية عليا جديدة بناء على ما نص عليه الدستور ومن خلال تشريع قانون جديد يُسن بتصويت أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب. وهذا الفهم كان جلياً في انتخابات ديسمبر 2005، فلم يطلب أحد مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات، والمحكمة الاتحادية العليا نفسها كانت مقتنعة بذلك، فلم تصادق على نتائج تلك الانتخابات لأن هذا الاختصاص لم يرد في قانونها (30/2005)، في حين ورد ضمن اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا الأخرى المفصلة في دستور 2005.
ولكن، وبسبب التأثير السياسي لقوى معينة، استمرت المحكمة بممارسة اختصاصات مزدوجة ومتشعبة وموسعة شملت الاختصاصات الموضوعة لها في قانون 30/2005، إضافة الى الاختصاصات الواردة في المادة 93 من الدستور، في خرق دستوري واضح يمس شرعية النظام السياسي والحكومي القائم حالياً، لأنه في الحقيقة ليس لدينا محكمة اتحادية عليا مشكلة طبقا للآليات والطرق المقررة في الدستور الدائم لعام 2005.
ثم جاءت خطوات اخرى عززت من أسس التشكيك بعدم دستورية وقانونية المحكمة الحالية. فعندما فشلت الكتل السياسية في حشد الدعم اللازم لتمرير قانون جديد للمحكمة الاتحادية، التفت قوى السلطة على ذلك من خلال تمرير تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم /2005، بأغلبية الأصوات في 18 اذار 2021، في جلسة حضرها 204 نواب من أصل 329، ووسط مقاطعة النواب الكورد وممثلي الأقليات. أي تم تمرير التعديل بالأغلبية البسيطة وهو امر مناف تماما للمادة الدستورية (92/ثانياً) التي تستلزم وجود الثلثين. كذلك فان تمرير التعديل بالأغلبية البسيطة قد خالف قرار المحكمة الاتحادية نفسها، حيث حكمت في القرار (107/اتحادية) الصادر بتأريخ 18/11/2012 بانه "لا يخرج المشروع سواءً بشكل قانون أو تعديل القانون النافذ عن نصوص الدستور، وبالأخصّ نصّ المادة (92/ ثانياً) من حيث تُلزِم أن يصدر قانون المحكمة الاتحادية العليا أو تعديل القانون النافذ وفق الآلية المنصوص عليها في المادة (60/أولاً) وبالنصاب المنصوص عليه في المادة (92/ثانياً) من الدستور". وتابعت المحكمة "الذهاب إلى خلاف ذلك بالنسبة إلى تعديل المقترح يشكّل مخالفةً دستورية". وأضافتْ "ونركّز هنا على أنّ قانون المحكمة الاتحادية العليا - إنشاءً أو تعديلاً- اختصّه الدستور بنصاب معيَّن للمصادقة عليه (بقانون يُسنّ بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب)، ولا يجوز مخالفة ذلك كما تقدّم إنشاءً أو تعديلاً".
وتكمن أهمية وجود (اغلبية الثلثين) في التصويت على القانون او التعديلات الخاصة بالمحكمة الاتحادية، لان هذه المحكمة تطلع بدور حساس جداً في حسم القضايا الدستورية وبالتالي المحافظة على حقوق المواطنين كافة بغض النظر عن العرق، والقومية، والدين، والمذهب. لذلك، افرد الدستور للمحكمة الاتحادية العليا أحكام خاصة بها في الفرع الثاني من الفصل الثالث -في المواد (92، 93، و 94)- لأهمية الفصل بين السلطات وضرورة الحفاظ على النظام الديمقراطي من المتغيرات التشريعية أو محاولات الاحتواء التنفيذية، حيث يعمل كلاهما وفق عقائد الأحزاب والكتل السياسية المهيمنة على السلطتين التشريعية والتنفيذية والتي لا يتصور فيها الاستقلال، مما دعا الدستور إلى جعل السلطة القضائية مستقلة وعزز استقلالها بخصوصية القوانين التي تنظم أعمالها مثلما جعل من المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية وليس مجلس دستوري أو هيئة سياسية على وفق حكم المادة (92/ أولا) من الدستور التي نصت على (المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة ماليا وإداريا) وفرض أغلبية الثلثين لسن قانونها وفق المادة (92/ ثانيا).
أضافة الى مخالفة المادة (92) الدستورية، تضمن التعديل قانون 30/2005، منح مجلس القضاء الاعلى حق اختيار قضاة المحكمة الاتحادية، في مخالفة واضحة للمادة (89) الدستورية التي تتبنى مبدأ الفصل بين المؤسسات القضائية، حيث تنص على "تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون." كذلك جاء منح مجلس القضاء الأعلى صلاحية اختيار قضاة المحكمة الاتحادية العليا مخالفاً لقرارات المحكمة نفسها، حيث أصدرت قرارا بعدم دستورية المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005، والذي يعطي لمجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح رئيس وأعضاء المحكمة، مطالبة مجلس النواب بتشريع مادة بديلة تتفق مع أحكام الدستور. ولكن قوى السلطة أصرت على تضمين التعديل انتهاكاً للمواد الدستورية (91 و 89) وقرارات المحكمة الاتحادية نفسها، فدعا رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي فائق زيدان اعضاء مجلس القضاء الاعلى للاجتماع مباشرة في 22 آذار 2021 لتطبيق قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005 لان التعديل قد تضمن ايضاً فقرة تعتبر ان القانون المعدل يصبح نافذا بعد اقراره مباشرة اي قبل نشره في جريدة الوقائع، لضمان الإسراع بوضع تلك التعديلات غير الدستورية حيز التنفيذ.
كذلك تضمن تعديل القانون 30/2005، المادة 4 التي نصت على إضافة جميع الاختصاصات الدستورية المنصوص عليها في المادة (93) من الدستور والاختصاصات الاخرى التي وردت في مواد أخرى الى المحكمة الاتحادية. وهكذا أضيفت صلاحيات لم تكن تتمتع بها المحكمة الاتحادية من خلال الية تشريع غير دستورية لم تستند الى أغلبية الثلثين التي اشترطتها المادة (92/ثانيا) من الدستور، وإنما تبنت الأغلبية البسيطة، بحجة أنها تعديل لقانونٍ نافذٍ قبل تشريع الدستور وليس بتشريعٍ لقانون المحكمة التي نصّ عليها الدستور. وهذه حجة وتفسير مخالف تماما لأحكام المادة (130) من الدستور والتي تنصّ على أنه "تبقى التشريعات النافذة معمولاً بها، ما لم تُلغَ أو تُعدَّل، وفقاً لأحكام هذا الدستور" أي أن تعديل قانون المحكمة الاتحادية يجب أن يكون وفقَ أحكام الدستور، المتمثلة بأغلبية الثلثين التي نصت عليها المادة (92/ثانيا) من الدستور.
بناء على كل ما تقدم، نخلص الى ان المحكمة الاتحادية الحالية مخالفة للدستور في بينتها وهيكليتها وصلاحياتها واليات سن تعديلات قانونها، فهي تخالف المواد الدستورية (3، 89، 91، 92، 130) إضافة الى قرارات المحكمة الاتحادية نفسها مثل القرار (107/اتحادية) في 2012، والقرار (38/اتحادية) في 2019، بمعنى أن المحكمة الاتحادية العليا لا تحظى بأي غطاء قانوني راسخ يتيح لها الفصل في المنازعات بعد الاحتكام لها واتخاذ القرارات ضمن اختصاصاتها المنصوص عليها دستورياً. وبالتالي فان جميع القرارات الصادرة من هذه المحكمة ضد شعب كوردستان والتي تهدف الى تركيع هذا الشعب الابي باطلة. وهنا لابد من تذكير الجميع، بان شعب كوردستان قارع أعتى القوى الدكتاتورية لعقود طويلة ولم تقف بوجه حملات الإبادة الجماعية ولا القصف بالأسلحة الكيميائية ولا السياسات التعسفية، فقد بذل الغالي والنفيس في سبيل نيل حريته والحفاظ على كرامته، فلن ترهبه الان مؤامرات الفاسدين والحاقدين.
وفي هذا الاطار ندعو جميع القوى السياسية الخيرة في العراق الى العمل على الإسراع في إصدار قانون المحكمة الاتحادية بما يضمن استقلاليتها وعدم تبعيتها لأية قوى سياسية وبما يضمن الحد الأدنى من المهنية لقراراتها، وتضمين القانون ما يؤسس لإلزام المحكمة الاتحادية بوضع أسس قانونية واضحة ودقيقة لقراراتها والابتعاد عن اللغة الانشائية واحترام سيادة النصوص الدستورية وعدم أضافة تعابير غير موجودة في اصل النص الدستوري. كما وأثبتت التجربة مؤخراً انه يجب إيجاد الية للطعن في قرارات المحكمة الاتحادية لكي لا تتهاون مجموعة معينة بإصدار قرارات واحكام مسيسة تنتهك فيها الدستور لإنها تعتمد على ان قراراتها باتة وملزمة وغير قابلة للاعتراض، ولمنع تجاوزها لاختصاصاتها وتحريف النص الدستوري، وانتقالها من التفسير إلى التشريع، لان هذا سيقوض شرعية النظام السياسي القائم. كذلك يجب ضمان مشاركة جميع المكونات في تشريع هذا القانون الخطير والحساس، وحسب الاليات الموضحة في المادة (92/ثانياً) الدستورية.
المصادر:
د.احمد سلامة بدر، دور المحكمة الدستورية في تفسير النصوص القانونية، دار النهضة العربية، القاهرة 2016.
.د.أحمد فتحي مسرور ، الحماية الدستورية للحقوق و الحريات، دار الشروق، الطبعة الثانية 2000.
.اكرم ابراهيم الزعبي و موفق سمور المحاميد، مناهج البحث في القانون، دار الثقافة للنشر والتوزيع ودار العلمية الدولية للنشر و التوزيع، عمان، الطبعة الاولى، 2001.
العميد الدكتور امين عاطف صليبا، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون، دراسة مقارنة، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان 2002.
د. أسامة الشبيب، تعليق على قرار المحكمة الاتحادية رقم 29 اتحادية 2020: https://www.bayancenter.org/2020/03/5767/
د. باسل حسين، الأزمة السياسية في العراق بين السياق الدستوري والمتغيرات الراهنة، https://studies.aljazeera.net/ar/article/4616
حسين جبار النائلي، الاختصاص التفسيري للمحكمة الاتحادية العليا في العراق، مجلة المحقق الحلي للعلوم القانونية و السياسية، العدد الثالث السنة التاسعة ، 2017
د.عصام سعيد عبدأحمد، الرقابة على دستورية القوانين، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، الطبعة الأولى.
نادر جبلي، فكرة المبادئ فوق الدستورية ، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ، https://www.harmoon.org/researches/%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A6-%D9%81%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/
د.يحيى الكبيسي العراق: المحكمة الاتحادية العليا وأزمة الدولة. https://arabi21.com/story/1472221/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A92
*مسؤول مكتب تنظيمات محافظة كركوك – گرميان للحزب الديمقراطي الكوردستاني
مشاهدة 1246
|