ليس من المعقول أن يقفز مغامرٌ عسكري أو مجموعة سياسية إلى دفة الحكم المطلق ما لم تكن هناك بيئة تقبلهم وسبق لها أن أعدتهم تربوياً وسلوكياً، وتتقبل أسلوب القفز إلى كرسي الحكم، معتبرةً هكذا مغامرة عنتريّة نمط من الشجاعة الفائقة، حيث أتاحت لهم متراكمات التربية الاجتماعية استخدام درجات هذا السلم السحري لكي يعتلوا منصة ما نسمّيه بالنظام الدكتاتوري، ولا عجب أن تكون أولى صور اعتلاء تلك المنصة هي نشوة النصر الذي تتراقص له أكف المعجبين والمؤيدين من الشعب والتي تطغي على أي صوت معارض أو مختلف، لكي تبدأ حقبة التكتيم والإلغاء التي تصل إلى حدِّ التكفير أو الاتهام بالخيانة العظمى لفارس الأمة ومقدامها، وإباحة قتله تحت مختلف التسميات.
وبداية سلمنا هذا وفي درجاته الأولى حكايات جدتي التي تسبق النوم كي تترسب جيداً في الذاكرة الرطبة المليئة بأحلام الفارس العنتري أو إرهاب عذابات القبر، مروراً بأبطال أفلام الكارتون السوبرمانية والمسلسلات العربية والتركية وأمثالهما من مصانع إنتاج الأبطال الأحرار والعبيد السعداء، ثمَّ تلحقها الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية وأساليبها الكارثية في التربية والتعليم التي تعتبر الطفل وعاءً لملئه بالمعلومات دونما نقد لحقائقها أو إدراك لعلاقتها بحياة الطفل ومجتمعه، بل وتكرس في معظمها ذات مفاهيم تلك الحكايات، وبذلك يتمّ تهيئة التربة لزراعة البذور الأولى لشجرة "نفذ ولا تناقش" في أجواء لا تقبل الأشياء المختلفة عن تلك النصوص الخشبية، تتبلور في ذاكرة الطفل وثقافته شخصية الفارس الأوحد والمنقذ الأعظم الذي لا يُناقش لكون حقائقه مطلقة ابتداءً من الأب والمعلم وإمام الجامع أو الكنيسة وصولاً إلى شيخ القبيلة وصعوداً حتى القائد الضرورة بكل أشكاله وعناوينه وجنسياته.
إن منظومة العادات والتقاليد والبناء الاجتماعي والديني المتشدد وتراكمهم كموروثات سلوكية تقترب من الأعراف والقوانين كفيلة بمنع تطبيقات أي نظام ديمقراطي بشكل شفاف سواء في تداول السلطة ومدى التأثير السلبي الطاغي على عملية انتخاب أي مرشح سواء للبرلمان أو الرئاسة، وقد اتضح ذلك بشكل جلي في الانتخابات التي جرت وتجري في بعض البلدان العربية وخاصة في العراق وسوريا وليبيا وايران ومثيلاتهم في الشرق الأوسط، ولذلك لا مناص من إعادة النظر في آليات عملية التغيير التي يعتقد الكثير من أنها تبدأ من هرم السلطة، في الوقت الذي تؤكد تجارب الشعوب في الديمقراطيات العريقة إن البدايات تبدأ في الدرجات الأولى للارتقاء وهي العلم والمعرفة والتربية والتعليم بمناهج معاصرة علمية بعيدة عن تلك التراكمات الموروثة، وكما في الإرث الاجتماعي ومناهج التربية والتعليم القديمة وتأثيرها البالغ على عدم قبول النظم الديمقراطي، فان سلم الديمقراطية هو الآخر بحاجة ماسة الى إعادة النظر في كل تلك الموروثات والتخلص من السيئ منها وتكريس الجيد فيها لخدمة اعتلاء المجتمع سلم قبول الاخر وغرز مفهوم المواطنة التي تتجاوز الانتماء القبلي والديني والعرقي والقومي، وهي الأسس الأولى لبناء جيل الديمقراطية الصحيحة وليست تلك التي يتصورها البعض كبسولات أو معلبات يتناولها الفرد لكي يكون ديمقراطياً.!
مشاهدة 832
|