من المسلّم به أن ارتقاء الثقافة في أية أمة من الأمم، يعتبر السبيل السليم إلى تكوين نخب سياسية منبثقة عن أحزاب سياسية مؤهله لتولي الحكم وقيادة البلاد قيادة حكيمة ورشيدة. ولكننا لاحظنا أن الدكتاتوريات الشمولية في بعض البلدان العربية والشرق أوسطية عندما تولت الحكم حطّت من قيمة الثقافة الانسانية وذلك من خلال فرض الرقابة على الأنشطة وكافة المرافق الحياتية والجامعية والفكرية. واحتكار معظم وسائل الإعلام وفرض رقابة صارمة عليها. واعتبار أن لا عقل يفكر في البلد غير عقل النظام، ولا رأي سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً يسود غير رأي النظام. وفرض فكر الدولة العسكرية على مناهج التعليم في المراحل المختلفة. والقيام بعملية تطهير واسعة النطاق لمعظم الأكاديميين الليبراليين، وتفريغ المجتمع المدني إن كان قائماً ومؤسساته منهم .... ان التعددية السياسية أسلوب من أساليب التعامل السياسي تأخذ بـه كثير من الدول المتقدمــة سياسياً ، وهو أفضل وقاية من أعمال العنف والثورات الشعبية ضـد الحكم الفردي وبالتعددية السياسية يتم التداول على السلطة من قبل الأحزاب السياسية بواسطة الانتخابات ، كما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية ، ودول أوربا الغربية. والتعددية مظهر من مظاهر الحداثة السياسية، ونقصد بها أولا وجود مجال اجتماعي وفكري يمارس الناس فيه " الحرب " بواسطة السياسة، أي بواسطة الحوار والنقد والأخذ والعطاء، وبالتالي التعايش في إطار من السلم القائم على الحلول الوسطى المتنامية ... وبما إن طبيعة الحياة السياسية في بعض بلدان العالم العربي والشرق الاوسط هي عبارة عن حياة رعوية قائمة على أساس وجود طرفين في المعادلة هما الراعي والرعية ، الراعي هو الحاكم السياسي المتمسك بالسلطة والذي يرأس السلطة السياسية ، والرعية هم الشعب ، وفي هذا النموذج تنتفي الحاجة إلى وجود تعددية سياسية لان الراعي ( الحاكم السياسي ) هو مفروض في قيادة الرعية والرعية مطالبة بالطاعة والخضوع . وبذلك فان الخطاب المستخدم في هذه العلاقة (علاقة الراعي بالرعية ) هو خطاب أمر ونهي والجواب المقبول هو الامتثال والقبول. ونتيجة لذلك فان مسالة التداول السلمي على السلطة أصبحت مستحيلة في بعض الدول العربية كما يحدث في سوريا وحدث في ليبيا وتونس واليمن لان الحاكم بسياساته يمنع مثل هكذا أمر ، بل يسعى دائماً إلى تصفية خصومه السياسيين لغرض ضمان بقاء نفوذه السياسي إلى أطول فترة ممكنة كما أن أغلب المشكلات بين أطراف المعادلات السياسية في البلدان العربية تنشأ من محاولة الإقصاء من الأطياف السياسية ووجود نوايا لدى كل طرف لإقصاء الآخر لا للتعامل معه على أساس القاعدة الوطنية والتلاقي عبر الملفات المشتركة والمطالب الموحدة .
ويرى المهتمون بالشإن السياسي أن المقصود بالتداول السلمي للسلطة هو "التعاقب الدوري للحكام على سدة الحكم تحت صيغ الانتخابات ، حيث يمارس هؤلاء الحكام المنتخبون اختصاصاتهم الدستورية لفترات محددة سلفاً" . وبذلك فان اسم الدولة لا يتغير ولا يتبدل دستورها ولا تزول شخصيتها الاعتبارية نتيجة تغير الحاكم أو الأحزاب الحاكمة . وعليه فان السلطة من وجهة نظرهم هي " اختصاص يتم ممارسته من قبل الحاكم بتفويض من الناخبين وفق أحكام الدستور .ويشير المهتمون بعلم السياسة الى انه "لايمكن الحديث عن بناء دولة ديمقراطية مالم يكن هناك اعتراف بحق جميع التيارات والأحزاب السياسية أن تتبادل مواقع الحكم والمعارضة داخل الدولة ".والوسطية .. هي الحل الأمثل للتعبير عن إمكانية المزاوجة بين ( الانظمة الدكتاتورية ) و ( الانظمة الديمقراطية ) بإستخدام نظام يميل الى ( الوسطية) و( الاعتدال ) لا الى التطرف في المواقف ، اذ ان أي تطرف نحو المغالاة في تطبيق انظمة دكتاتورية او ليبرالية ديمقراطية متحررة أكثر من اللازم يعود بإضرار على العملية السياسية وبخاصة في دولنا التي تحسب على ما يسمونه بالدول النامية ، أو دول العالم الثالث التي ما زالت تجـــــــــاربها تحبو باتجاه الديمقراطية رغم تمسك العديد من انظمتها بالحكم الاحادي أو الفردي. وتداعيات المشهد السياسي في تونس وسوريا وليبيا واليمن أثبتت هذه الحقائق دون أدنى شك فقد جاءت الديكتاتوريات العسكرية في هذه الدول بقيم سياسية وثقافية، تختلف عن قيم المجتمع المدني مثل الحرية والديمقراطية والمساواة والسلام، في حين كانت قيم هذه الديكتاتوريات العسكرية هي الطاعة المطلقة والجبروت ومسايرة الترويع. اضافة الى رفضهم لمجموعة المنجزات الثقافة والسياسية والاجتماعية للحضارات المتقدمة وأن المجتمع المدني في نظرهم فقط تعبير أمريكي ليس موجودا إلا في أمريكا؟! ، واعتبروها من مظاهر الاستعمار حتى"كل ما قدمه الانجليز والفرنسيون أيام استعمارهم لمصر وبلاد الشام من إيجابيات أصبح مشبوهاً ومتهماً ؟! لان هذه الانظمة تعاني من عدم تأهيلها علمياً وثقافياً وسياسياً لمثل المهام الصعبة التي تولتها أثناء حكمها. وما تقوم بها الانظمة الشمولية من إصلاحات جزئية عندما تتولى الحكم، لا يتعدى أن يكون خدمة لمصالحها وبقائها في الحكم أطول مدة ممكنة. فلقد أحالت بعض الانظمة التي حكمت أجزاء من العالم العربي طوال نصف قرن مضى وما يزال بعضها في الحكم حتى الآن بحيث تحول بعض البلدان العربية إلى دول بدون استراتيجيات ؟ ومن خلال هذه الأضرار، وأضرار أخرى كثيرة، لحقت بالمجتمع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين وما زال هذا المجتمع يتجرّع كؤوس المرارة من الانظمة الشمولية نرى أن الضرر قد لحق كثيراً بالشعوب العربية وبعض الشعوب التي عاشت جنبا الى جنب مع الاخوة العرب واختلطت بروحية التآخي والتعايش السلمي وبرحابة صدر مع الشعب العربي الشقيق كالشعب الكُردي بحيث أصبحت شخصيات وتاريخ هذا الشعب جزءا مهما من نسيج التاريخ الديني والاجتماعي والفكري والسياسي للتاريخ الاسلامي والتاريخ العربي مثل صلاح الدين الايوبي والصحابي الجليل دابان الكُردي وابن صلاح الشهرزوري وابن خلكان واحمد شوقي ومعروف الرصافي والزهاوي وعباس محمود العقاد وطاهر يحيى ومحمد كرد علي وأصول عائلة الاطرش وبكر صدقي وخالد بگداش وغيرهم وغيرهم والقائمة تطول؟؟
ولعل الفشل الذي شاهدناه في النصف الثاني من القرن الماضي إضافة إلى ما نشاهده الآن، قد كان من الأسباب الرئيسية لفشل بعض الدول العربية بعد الاستقلال في تحقيق الطموحات والآمال الوطنية في الحرية والديمقراطية وقد أوقع هذا الجهل بالسياسة القيادات في بعض الدول العربية في مآزق ومطبات سياسية مختلفة، بحيث كلّفت شعوبها خسائر مادية واقتصادية وسياسية وبشرية هائلة كما حدث منذ تأسيس الدولة العراقية قبل مئة عام وحتى الان ؟وكانت النتيجة ان الشعوب العربية وقفت بحزم ضد حكوماتها القابعة على صدر شعوبها بالحديد والنار وقامت باشعال الثورات كما رأيناها في أحداث الربيع العربي ضد الحكومات التي لا تتنازل عن مقاليد الحكم طوعاً ...بأية حال ان الظروف الموضوعية لهذه الثورات هي أزمة الانظمة العربية والتي ولّت زمانها والمقدمات الموضوعية للثورة ليس فقط الأسباب الإقتصادية، بل الظروف الإجتماعية والسياسية كذلك ، ان ثورة الجماهير في هذه البلدان مدعوة إلى تحقيق التحولات الجذرية في الميادين الرئيسية للحياة الإجتماعية وفي الاقتصاد والسياسة. والخلاصة هي أن التعدد السياسي في كل بلد هو الذي ينبع تلقائيا من حاجات المجتمع، ويعكس اختلاف المصالح، وتباين التوجهات السياسية، والبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وهو من مقومات البناء الديمقراطي السليم، ومن الشروط التي يؤدي توفرها لتداول السلطة، غير أن كثرة الأحزاب لا تعكس بالضرورة تعددا سياسيا حقيقيا، ولا يؤدي التعدد الغاية المتوخاة منه في النظام الديمقراطي في غياب التنافس المتكافئ بين أحزاب سياسية لها مقومات الوجود الفعلي، ولا يبقى أي معنى للتعدد السياسي وتنافس الأحزاب في الانتخابات إذا لم تكن إرادة الناخبين هي مناط السلطتين التشريعية والتنفيذية.
مشاهدة 1699
|