الحكومات الشيعية العراقية التي جاءت بعد الغزو الأميركي عام 2003 جبلت على الكذب والدجل والمراوغة وعدم الالتزام بالعهود والوعود والمواثيق، نفس النظام السياسي الشوفيني الدكتاتوري السابق ولكن بأيديولوجية مختلفة أكثر خداعا وفسادا وتضليلا للجمهور العراقي.
أعظم كذبة اخترعتها وروّجت لها السلطة الطائفية هي “الدستور” الذي لم تطبق منه مادة واحدة “براسها خير”! لا شيء تغير في إدارة الدولة سوى أن البلاد اتجهت إلى الفوضى والتسيب والهرج والمرج أكثر، لينتشر فيها الجهل والفقر والفساد والخرافات أكثر من أيّ فترة أخرى عرفها التاريخ العراقي القديم والحديث، ودب فيها الوهن والعجز وفقدت استقلالها وسيادتها وخضعت للميليشيات والفصائل التابعة للقوى الخارجية التي شكلت دولة قوية داخل دولة رسمية ضعيفة مهترئة لا تحل ولا تربط.
الدستور الذي “عالج أهم مشكلتين ظل العراقيون يعانون منهما لفترة طويلة، وربما منذ تأسيس الدولة العراقية، هما، المشكلة الأولى: مشكلة الأكراد المزمنة التي وجد لها حلا مثاليا من خلال المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، وخاصة مدينة كركوك الغنية بالنفط. والمشكلة الثانية: تتعلق بالتعايش المضطرب والثقة المفقودة بين المكونات والمجتمعات العراقية المختلفة طائفيا وقوميا وثقافيا. والتي تمت معالجتها وفق المادة 119 التي أجازت للمحافظات إقامة أقاليم شبه مستقلة مع وضع دستور خاص لكل إقليم أسوة بإقليم كردستان.. ولكن الحكومة لم تقم بتطبيق هاتين المادتين المفصليتين فحسب، بل اتهمت كل من يدعو لإقليم جديد من المكون السني بالإرهاب وتنفيذ قانون 4 عليه وعقوبته الإعدام.
وقد رأينا كيف أن رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي تصدى للمحتجين في محافظة الأنبار عام 2013 وقال قولته الشهيرة “انتهوا قبل أن تُنهوا” واعتبر تشكيل الإقليم السني وفق المادة 119 من الدستور انفصالا وتقسيما للعراق الواحد الموحد الذي “لا يقبل القسمة”! فيما بقي إقليم كردستان الذي تحول إلى كيان دستوري قائم بذاته بمرور الزمن عقبة كأداء أمام طموحات المالكي ومن لف لفه من الطائفيين التوسعيين، ومثل لهم كابوسا مقلقا يقض مضجعهم ويحول دون بسط هيمنتهم المطلقة على كامل البلاد.
وقد مارسوا ضده كل أنواع القمع الوحشي؛ الحصار والتجويع وقطع الميزانية والرواتب، ومنعوا عنه حصته من المساعدات الخارجية، واستعملوا القوة العسكرية وقرارات المحاكم المسيسة ضده، خلافا للدستور، وضربوا مطاراته ومنشئاته النفطية بالصواريخ والدرونات وجيّشوا الجيوش ودقوا الأسافين بين أبنائه، ولم يتركوا طريقا شيطانيا إلّا وسلكوه لإضعافه والنيل منه تمهيدا لتقويضه ومن ثم ترويضه وإعادته إلى “الحضن الشيعي”.
ومما يلفت النظر أن الهجوم الوحشي المتواصل الذي تقوم به الفصائل في بغداد ومن ورائها إيران بحق الكرد تجري أمام أعين أميركا وبريطانيا ودول خليجية، دون أن تبدي هذه الدول أيّ تنديد أو استنكار أو تعاطف معه، الأمر الذي يدل بوضوح أن هذه الدول إما أن تكون متعاطفة مع بغداد وترى أنها على الحق، وأن الكرد هم المعتدون. وإما أنها عاجزة عن فعل شيء حتى توجيه عبارة شجب وتنديد.
والعجيب أن الدول الغربية لا هي تتدخل لإجبار الطرفين على وضع حد لخلافاتهما الطويلة، ولا هي تسمح لبغداد أن تتعدى حدود إقليم كردستان، كما فعلت مع مدينة كركوك.
المشكلة العميقة القائمة بين أربيل وبغداد هي انعدام الثقة، لا توجد ثقة بين الطرفين أو بالأحرى لم يعد الكرد يثقون بالأحزاب الشيعية التي ظلت تراوغ وتناور وتخادع لكي تمنع الوصول إلى حل، سواء عن طريق الدستور أو عن طريق الحوار والاتفاقات السياسية. وقد رأينا كيف أن المالكي وقّع على ورقة بيضاء مع رئيس الحزب الديمقراطي مسعود بارزاني عام 2010 للحصول على دعمه في توليه الحكم لولاية ثانية، ولكن ما أن تولى السلطة حتى قلب له ظهر المجن ولم يلتزم بأيّ بند من بنود الاتفاق.
العرب
مشاهدة 1279
|