هنا في بلاد الرافدين، تحديداً في إقليم كردستان العراق، وعبر تاريخ هذه المنطقة من العالم، من أقصى ممالك ميديا إلى أقصاها في ممالك آشور، نزولاً إلى أور وطيات الهجرات الأولى لشعوب وأقوام شمال ما بين النهرين إلى جنوبه، حيث أولى بصمات الحضارة وحرفها السومري الأول في مقامات الكلام وباكورة أنسنة الإنسان البدائي، صعوداً إلى تلك الهضاب بين أكد وبابل الحضارة والجمال وأختام القوانين وبدايات عصر النواميس والدساتير، كان التعايش هو التحدي الأكبر بين الأقوام والأعراق والأديان، التي أخذت أشكالها وطيّات سيكولوجيتها من تضاريس هذه البلاد واختلاف أشكالها وألوانها، جبالها ووديانها، حيث توزعت مشارب البشر وانتماءاتهم في العرق والعقيدة، بين الكرد والعرب وبين الكلدان والآشوريين والسريان والتركمان، جمعتهم أرض تمازجت فوقها كل الألوان حتى غدت في يومها الأول نوروز أجمل فسيفساء لبني الإنسان.
كان لا مناص من التعايش رغم كل الصراعات والحروب بين تلك المكونات وقادتها أو أنظمة دولها وإماراتها، ففي كردستان الوطن الذي يسكن قلوب ساكنيه، تعايشت على أديمها تلك المكونات في كل قرية ومدينة، على قمم الجبال وأطراف الوديان، كانوا الأقرب إلى بعضهم عبر كل ما جمعهم من تاريخ وجغرافيا، ومن حروب وعلوم وآداب، حتى تشابكت الأحداث والمشاعر والأحاسيس، واختلطت الدماء وهي تنزف في حروب خاضوها مع بعضهم أو ضد بعضهم من أجل الحياة، لكنهم أيضاً تناسبوا وامتزجت أصلابهم وألوانهم وسحناتهم حتى لم تعد تفرق بين العربي والكردي، أو بين الكلداني والآشوري، لم يكن هناك أي صراع أفقي بين كل هذه المكونات والأعراق، وبالذات بين العرب والكرد، بل ليس للكرد إخوة وأصحاب غير هذه المكونات من العرب وغيرهم من الأعراق والديانات. لقد كان الصراع عمودياً مع الأنظمة السياسية التي حكمت الجميع واستهانت بحقوق الآخرين؛ أقواماً كانوا أم أدياناً، وكان الجميع ضحايا لتلك الأنظمة الديكتاتورية وأساليبها القمعية والظالمة، كما قال الزعيم الكردي الكبير ملا مصطفى البارزاني رائد النهضة القومية الكردية، منذ الأيام الأولى لثورته ضد ديكتاتورية عبد الكريم قاسم: «إننا لا نحارب العرب، بل نقاوم تلك السلطات والنظم السياسية الديكتاتورية الظالمة والقاسية التي تضطهدنا جميعاً»، ولذلك أوصى أركان ثورته ورجال حربه بألا يخلطوا بين الشعب وما تقوم به تلك الأنظمة الطاغية، بل كان يطلب التعامل مع أسرى تلك الحروب بأنهم متورطون لا حول لهم ولا قوة، واعتبارهم مواطنين وإكرامهم وإطلاق سراحهم فور استسلامهم أو أسرهم، وعلى هذا الأساس كان الخطاب السياسي في الإقليم منذ 1992 يؤكد أن العرب لا يتحملون وزر تلك الأنظمة وجرائمها، لأنهم هم أيضاً من ضحاياها.
لقد أثبتت مجريات الأحداث عبر التاريخ أن الشعبين العربي والكردي هم أقرب الشعوب إلى بعضهما، في التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والعقائد، وفي أول عملية اختيار بين خيارين في مشكلة ولاية الموصل (التي كانت تضم كل إقليم كردستان الحالي) بين الاتحاد مع العرب في مملكة العراق أو الانتماء إلى تركيا بعد إقصاء فكرة الاستقلال قسراً، اختار الكرد الاتحاد مع العرب في مملكتهم الهاشمية تحت مبدأ المشاركة في مطلع القرن الماضي، ورفضوا أن يكونوا جزءاً من الكيان التركي آنذاك، لسبب واحد هو أنهم اختاروا الأقرب إلى قلوبهم وعقولهم وتاريخهم، فمنحوا الموصل عراقيتها لترتكز مملكة الهواشم على ثلاث ولايات هي: البصرة وبغداد والموصل.
وكما يذكر التاريخ رجالات كردستان وإسهاماتهم العظيمة في تاريخ العرب وحياتهم، فإنه يذكر باعتزاز أولئك الرجال والنساء من العرب الذين تبنوا قضية الكرد وناصروها، بل وتعرضوا من أجلها إلى أشد المخاطر والويلات من قبل الأنظمة السياسية الديكتاتورية والشوفينية، وفي العراق إبان الحرب الظالمة التي شنها النظام السابق، سجل التاريخ في ذاكرة الشعبين عشرات من المواقف الخلاقة والنبيلة لكثير من الجنود والضباط الذين كانوا يرفضون همجية النظام ومؤسساته الخاصة في تعاملهم مع شعب كردستان.
ولعل الكثير يتذكر المئات من البيشمركة العرب والكلدان والآشوريين في مختلف المنظمات والأحزاب الوطنية العراقية ممن كانت كردستان وأحضان الكرد ملاذاً آمناً وكريماً لهم ولعوائلهم، وساحة لانطلاقهم في مقاومة الظلم والديكتاتورية مع وجود الاختلاف الفكري والسياسي بينهم وبين الثورة الكردية، إضافة إلى المئات منهم ممن آمن بقضية الكرد وحقوقهم وناضلوا بالسلاح مع إخوتهم لتحقيق أهداف الشعب في الحرية والانعتاق، بينما حمل الآخرون من المفكرين والمثقفين أقلامهم سلاحاً نافذاً في عواصم العرب من بيروت إلى القاهرة، ولعل ذاكرة العرب والكرد تختزن العشرات من تلك الأقلام الحرة والمناضلة من أجل القضية الكردية وحرية الشعب الكردي ومعاناته، وبصرف النظر عن مواقف كثير من القوى المضادة والشوفينية التي لا تخلو منها كل شعوب الأرض، فإن ما بين العرب والكرد وما بين كل مكونات الإقليم أقوى وأمتن من أن تناله تلك المواقف والممارسات الشوفينية للسلطات الحاكمة وأتباعها عبر تاريخ العراق السياسي، فقد كانا - أي العرب والكرد - بمستوى إنساني راقٍ ونبيل في الساعات الأولى لانتفاضة الربيع في مارس (آذار) 1991 حينما تحولت بيوت ومساجد كردستان إلى أحضان دافئة لآلاف مؤلفة من الجنود والضباط والموظفين الذين تخلى عنهم صدام حسين يواجهون مصيرهم ويقعون أسرى بيد الثوار، ثم ما لبثوا حتى أطلق الثوار سراحهم معززين مكرمين.
ولقد تكرر المشهد ثانية في مارس 2003 إبان احتلال العراق وسقوط النظام وانهيار المؤسسة العسكرية، حيث سقط فيلقان من الجيش العراقي بأيدي قوات البيشمركة التي تعاملت معهم بمشاعر الأخوة والإنسانية وتجاوزت أحقاد وجروح الحرب وآلامها، وظهر معدن هذا الشعب الأصيل في تسامحه ونقائه، وأصبح هؤلاء الأسرى أحراراً وضيوفاً عند أهليهم في كردستان.
إن من أبرز أسباب تقدم وازدهار إقليم كردستان وتميزه بالأمن والسلام وتحوله إلى جزيرة وملجأ لكل العراقيين وجيرانهم في المناطق الساخنة منذ استقلاله الذاتي في مارس 1991 وحتى اليوم، هو هذا التعايش الخلاق والتسامح الراقي والنبيل بين الأديان والمذاهب والأعراق برغم محاولات المتطرفين من العنصريين عرقياً أو دينياً تمزيق هذا النسيج، إلا أن طبيعة تركيبة السكان الاجتماعية والسيكولوجية والأخلاقية لا تسمح بنشوء توجهات أو أفكار كهذه، والدليل هو تحول هذا الإقليم إلى ملاذ آمن لمئات الألوف من المضطهدين مذهبياً ودينياً وحتى عرقياً من كل أجزاء العراق الأخرى، وما يشهده الإقليم اليوم من نهوض ثقافي وحضاري لجميع مكوناته يدلل على أن هذا النموذج هو الذي يجب أن يحتذى به في كل من العراق وسوريا واليمن، بعيداً عن التعصب والانعزال واحتراماً لكل الخصوصيات والهويات.
إنه التعايش... التحدي الأكبر والامتحان الأول في مبادئ المواطنة الحقة!
مشاهدة 1219
|