في قصيدة (الغجر ..أغنية لوركا من غرناطة)
لبدل رفو
عبد الحفيظ بن جلولي
شاعر وكاتب من الجزائر
يمتدّ الحنين شعريا إلى ذات تعتبر ذاتها غريبة في عالم تُشكّله الكلمات، أو الكلام الذي يقترب من طبيعة الوجدان وهو ينزاح إلى شعرية دفينة في العالم، في المسار الذي شكل الإنسان باعتباره التّاريخ المتنقل عبر الحقب النّاسجة وجه العالم، ووجه الفاعل الشّعري الذي بحث عن كنهه في مرآة أغنية تبوح بغربتها وهي تشير إلى العالم بيد ترسم الوداع، تلك هي إحالات القراءة في قصيدة “الغجر.. أغنية لوركا من غرناطة” للشّاعر بدل رفو، إذ لا يمثل لوركا سوى لحظة الموت المفعمة بالحرّية، لحظة الحب الأنيقة للأنثى التّاريخية التي سبقت ولادته بسفر على قاطرة الإعدام كإدانة للاستغلال، “ما الإنسان دون حرّية يا ماريانا”، هكذا واجه لوركا الجنود لحظة إعدامه.
تعتبر القصيدة الباب الأوّل الذي ينفتح في فضاء الواقع لا باعتباره مجموعة من الأحداث ولكن باعتباره حركة نحو الذّات، “كلّما تاهت دروبك/وعانقتك الأشجان/كي تهيج في قلبك نار الغربة وجمراتها”، أيلولة شجنية نحو البؤرة المفجّرة لواقع لا يعيره البشر التفاتة شعرية، تلك التي تقوم بين “الدّروب” كحالة يشملها الشّتات الذي طال الذّات وهي تغامر داخل أنساق الاختلاف والمواجهة، و”الغربة” كميلاد للوعي بالدّرب الأول والوطن الذي نحمله معنا، وهنا تنبني الأقصوصة العميقة لحكاية شاعر “الوداعات” المتكرّرة في منتدى الحياة الشّعري، “لوركا” كأغنية عامّية وإنسانية مستمرّة كلما توهّجت فكرة “الحرّية” كمدخل للاغتراب داخل العالم، “وقتها../ ستركض صوبك قصائد (لوركا)/من غرناطة/تحمل رسالة مطر”، محمّلة بالوجع المهيمن على هجرة الذّات صوب ذاتها وهي تعاني من رنين “القصيدة” الذي يروي حكاية الغربة الغجرية أو بتعبير لوركا “الأغاني الغجرية”.
يؤثث الشّعر هويّته وفق أنسنة المكان ومنه تنشأ القصيدة متشظّية في الإنساني باعتباره حامل شعلة الكلام الموثّق بالذّات الكونية في استلهامها “المتنبي” كما “لوركا”، أو الوقوف عند حافّة القصيدة حين يشرّعها “بدل رفو” على الميلاد الأوّل للذّات وهي ترنو صوب الجدران الخضراء في “غرناطة”، إذ يتأسّس الاغتراب ليس كوضع لذات تفتقد المكان، ولكن لذات تعدّدت مداخلها لأمكنة الميلاد/الهويّة.
يمثل الغجر ذروة “الحرّية” إذ تنشأ من علاقة بين الذّات وشتاتها في العالم، ولا يمثل هذا فرحا إنسانيا لمجرّد أنّ الذّات طليقة في الوضع التّاريخي من قيد التراب، هي طليقة أصلا من شيء ما، لا تريده أن يستمرّ ألما ووجعا في المنحنيات الوجودية العالقة في الوعي كسماد للجرح، ولهذا عندما يتأسّس الغجر كأغنية، حينذاك، نستمع إلى الثورة الإنسانية في عمقها الباحث عن “وطن” يجمع “الهويّة” إلى “الغربة” وأمداء الذّات الخفيّة الممتدّة في “ركن ليل وشهوة الغجر/تتغنى بأغاني الحرّية/لشعب من دون وطن”. ينبثق سؤال الأرض/الوطن عند بدل رفو على حدود التّقاطعات الممكنة بين “الحرّية” وفقدان “الوطن”، إذ تحاول القصيدة المتناثرة من وجع الغربة أن تبشّر بغنائية منتظرة ومعلّقة على شرط الحرّية أوّلا، ومن ثمّة يكون الوطن متراقصا على “مرآة” تكمن في “الكلمة” باعتبارها التحدّي القوي الذي يواجه من يبنون هويّاتهم على أطلال من يحملون هويّة “وطن”.
“الغجر” بنية جمالية تتجاوز التّحديد اللغوي في الكلمة لتنساح لسانيا وفق موسيقى كونية تشمل الإنسان والمكان والأشياء التي يتعرّف عليها البشر بالسّليقة وحكم وحدة المنشأ والمسار والمصير، “الغجر/من دفء لياليهم/تتدلى الرّوح كأسراب نوارس”، فالحلم لا يتاح سوى إذا اخْتَلَتْ الذّات بذاتها، ليس عزلة وإنّما في ذلك الذي تقدّمه ويغري البشر، ربّما هي الحالة النّورسية أو “الحرّية”، التي تتحرّك من الفرد إلى الجماعة في تناغم “الأسراب”، “الغجر/نداء لشعوب الأرض باشتهاءات/الرقص والأشواق صوب السلام/. لا تمتنع القصيدة عن تسريب هويّة شاعر يرسم الأرض كفضاء للمقهورين الذي يحترفون “الغربة” والشّوق إلى “الوطن”، فالغربة مسار غنائي مستمر على وجوه “الغجر” الذين يكسّرون جدران الفصل الوجداني ويقيمون سلطة “شعوب الأرض” حين يتقاسمون “الجسد” التوّاق للحركة في تفاصيل اللاّسدود، والصّائر إلى الحدود القصوى لــ “السّلام”.
يخرج شاعر من بين ثنايا القصيدة يحمل بيان “الحرّية” ومناوشة “الغربة” لا باعتبارها هويّة طاردة، ولكن مخافة أن تُسْلم الذّات إلى اللاّحلم أو كما يتسمّى شعرا: “الغجر…/ يملأون الظل الجائع..”، اللاّحلم ظلّ جائع لحركة الجسد في سموات الغيم والأمطار التي لا تنتهي ووردة على سقف بناء رمادي، اللاّحلم وطن البؤساء حين لا يتصدّون للغربة بالقصيدة، “الغجر../ديوان شعر لاحتفالية انسان شاعر..”، في المعنى القائم شعريا تتداخل “الغجريات” وكافّة الهويّات الدّامعة عند حدود أوطان بديلة، و”الشّعريات” لتشكل مدوّنة الشّعر العالق بين شهقة صراخ بــ “الحرّية” وكلماتٍ تمنح الفرصة لشيء ما في العالم أن يصير “قصيدة”، وإذ ذاك تتشكل “احتفالية انسان شاعر”، حيث تتمعنى الهويّة الإنسانية داخل أنساق الغناء في مسار الكلام الذي تنتجه الذّوات زمنيا لبلوغ وجودية جامعة تحت سقف “الغجرية” المدمغة بسرّ الجمع بين “الغربة” و”الحرّية”.
يكتب الشّاعر قصيدته حين تلتمع في خياله عناصر لا يعرف مصدرها، فقط ينساق خلف بريق “المعنى” إذ يؤدّي به إلى رصيف لا لون له ولا موقع ولا حدود، إنّه الفضاء الذي تتجلّى فيه سطوة الفعل الفردي المنجز بكل العنف الذي ترد به الصّور والكلمات والأشياء حين لا يتحمّلها سوى كيان “القصيدة”، هو هذا الرّصيف الذي يسكنه “المغترب” و”الغجري” باعتبارهما حاملي لواء الارتحال، بَدَوِيَان في صحراء الهويّة إذ تفقد مسقط رأسها، وحين يفكر الشّاعر في “الحرّية” قبل كل شيء.
هل يفقد “الوطن” معناه حين يفقد حرّيته؟
التّفكير شعريا هو الوحيد المنقذ للوعي من كل ضلالات العقل حين يمنطق الأشياء، الشّعر يرسم دوائر الأمل في تشكيل بانوراما التّواشجات الشجويّة بين الأشياء لتجعل الخروج على الدّيمومة من عنق الزّجاجة ممكنا في كلّ الأحوال، حين يؤكّد شاعر بأنّ “الغجر””تاريخ الجنون الإنساني الأزلي” بتعبير بدل رفو
مشاهدة 1507
|