كلما أسمع بعض السياسيين العراقيين وهم يذكرون عبارة (هيبة وسيادة الدولة)، أتلمس ظلم ذوي القربى عند المفترق المصيري، وأشاهد الظواهر الخطيرة والمعبرة عن توجه العراق نحو التهاوي والإنهيار على جميع الأصعدة بسبب والتسويفات والتناقضات والصراعات الطائفية والمذهبية، وأتذكر إستسلام الكثيرين لضغوطات الفساد والسلاح المنفلت والغرور والغطرسة المتعاظمة. وأسأل نفسي : هل في العراق دولة كي نبحث هيبتها ونستعيدها ونحافظ على سيادتها؟
للإجابة على هذا السؤال، والحديث عن الدولة في العراق، لابد من العودة الى المقدمات التي صنعت النتائج، والى تاريخ معقد وطويل، يبدأ بتشكيل العراق الخاطىء ضمن حدود جغرافية ينتهك فيه الحقوق الأساسية لأصحاب الأرض الحقيقيين ومصالحهم، حفاظاً على مصالح المتسلطين الذين قاموا بتقسيم المنطقة فيما بينهم في معاهدة ( سايكس- بيكو)، والمرور بمشكلات ديموغرافية وتاريخية ومذهبية متعددة، والوصول الى مرحلة ترديد شعارات رنانة مزيفة وأطروحات وأوهام وخرافات ونزعات طائفية وعنصرية متطرفة لا تساير الواقع ولا تحقق ولو جزءاً قليلاً من طموحات وغايات الذين تم دمجهم في هذه الكيان تحت صيغ واهية.
هذا الكيان المصاب حالياً بعاهات مستديمة أخفى منذ تأسيسه وفي كافة المراحل الزمنية طموحات المتعصبين القوميين تحت غطاء الوطنية والعصبيات القبلية، وتعامل مع القضايا المشروعة المطروحة فيه بطرق ملتوية، ولبس عباءة التضليل والتحريف والخداع، وفشل في إنجاز أبسط مهماته، وغرق في الفضائح في الكثير من مراحله، لأنه انتهج سبل معاداة التحضر والتقدم والتطور، واستغلال المشكلات من أجل خلق الأزمات والاستمرار في إدارته، بشكل يتلاءم مع مصالح الحكام ويسهل لهم الهيمنة ونهب الخيرات، وإستنهض الفكر المتخلف وسخر الدين والوطنية وشعارات حسن النية والإخلاص في العمل والتفاني من أجل الجميع لتمرير أجندات المتسلطين ومكائدهم العدائية المبنية إما على الآيديولوجيا الفاشية القومية، أوالطائفية والمذهبية البغيضة التي تستنهض الفكر المتخلف في إيقاد نار الفتنة.
في كل العهود (منذ تأسيس أول حكومة في العراق الى يومنا الحالي)، رغم شيوع مفاهيم التمدن والتقدم والوطنية والسيادة وجهود الذين ظهروا مع الموجات الفكرية والإنسانية بين الأحزاب السياسية ومحاولاتهم من أجل تخطي النزعات القومية والمذهبية والعمل تحت خيمة ترسيخ إسم الدولة وهيبتها وسيادتها، تعاملوا مع الكورد بروح إستعلائية وأنكروا عليهم حقوقهم الطبيعية، وأذاقوهم الويلات وإستكثروا عليهم كل شيء، ومارسوا الإستفزاز والتحريض والقطيعة والعداء ضدهم، وجميعهم إستخدموا السلاح في مواجهتهم في لحظات قوتهم، ولجأوا إلى التفاوض وعقد الإتفاقات معهم بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة في لحظات ضعفهم، دون أن يغيروا نهجهم وسياساتهم. وقبل 2003، وهكذا دواليك، إستخدموا ذات النهج مع الشيعة العرب، وبعده إستخدموه مع العرب السنة. وهذا يعني أن جميع المكونات في العراق تلقوا طعنات تلو أخرى بأساليب خبيثة، وبأشكال وتواريخ مختلفة، وعانوا على الدوام من طغيان العنصرية والإستبداد وشيوع الرغبة في إحتكار السلطة ونهب الخيرات وإستفحال التناقضات وكثرة الأيام والسنوات العجاف المشوبة بأوحال المعضلات والتمييز والقلق والهواجس والمعاناة التي تبدد الإنتماء وتمنعه من سلك سياقه الحقيقي.
خلاصة القول، العراق ومنذ ما يقارب من مئة عام، يشبه المسافر المتعب الظمآن الجائع التائه في صحراء قاحلة ينتظر من يعينه على إلتقاط أنفاسه وإعادته الى أهله، وسكانه مازالوا يسمعون في كل مناسبة عبارة (هيبة وسيادة الدولة).
مشاهدة 1402
|