يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وإن كلّ رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت."
هذا الرأي كان قبل أكثر من 500 عام على تشكيل الدولة في العراق، التي استحضر العراقيون مئويتها في الأسبوع الماضي، اعتباراً من تاريخ إعلان مملكة العراق بتتويج الملك فيصل الأول ملكاً في 23 أغسطس عام 1921.
استحضار مقولة ابن خلدون التي افتتحتُ بها المقال قد وجدت مصداقية لها على أرض الواقع في العراق، على الرغم من الفاصل الزمني بينها وبين ما ورد في مذكرة الملك فيصل الأول التي يقول فيها: «أقول وقلبي ملآن أسى… إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتل بشرية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نرى؛ والحالة هذه، أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندرّبه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي».
من يتابع أخبار العراق اليوم وهو يقرأ رأي ابن خلدون ويطابقه مع وصف الملك فيصل للعراق، سيقول: كأنَّ التاريخ قد تجمَّد في هذه البقعة الجغرافية من الأرض، وما أشبه اليوم بالبارحة! إذ ما زالت الأزمات تراوح مكانها، فمنذ تأسيس أول حكومة في العراق المعاصر ولا تزال ذات الأسئلة تطرح: ما هي هوية العراق؟ ولماذا لا يتعايش أبناؤه في نظام يرضيهم جميعاً؟ لماذا تستمر الغربة بين النظام السياسي والمجتمع؟ لماذا تتغير أنظمة الحكم لكن العنف والقسوة لم يغادرا هذا البلد، وبقي شبح الموت يطارد العراقيين.
قَرنٌ من الزمان، وبقيت هذه الأسئلة تبحث عن إجابات، ورغم كثرة السرديات التي تحاول الإجابة إلا أن واقع الحال بقي كما هو من دون تغيير، ومع كل تجربة حكم جديدة نعود إلى نقطة الصفر لنواجه الأسئلة ذاتها! تتغير الأنظمةُ والحكومات، لكنَّ واقع الدولة المأزومة يبقى عصياً وممانعاً للتغير. وفشلنا في الحكومات والنخب السياسية في إنتاج مشروع دولة عراقية وطنية يؤسس لأمة، ويكون قادراً بعقلانية على احتواء واستيعاب تنوعها الداخلي وتأسيس دولة حديثة قائمة على حكم المؤسسات.
أنظمة الحكم في العراق تغيرت عناوينها وإيديولوجياتها وشعاراتها التي ترفعها، لكنها لم تنجح في مد جسور الثقة بينها وبين الشعب؛ لأنّها عملت على استمرار حالة القطيعة، وبقيت تتعالى على المجتمع وتهمش دوره في الحياة السياسية، لذلك لم تتردد الحكومات يوماً في ارتكاب المجازر والمذابح بحق مواطنيها.
أما النظام الديمقراطي الذي تتبجح به الطبقة السياسية اليوم، فهو نموذج لديمقراطية هشة تُختزَل بالانتخابات. ومن ثم، لا يمكن التعويل عليها لبناء الدولة ولا تأسيس حكم المؤسسات. بل على العكس، ستبقي الباب مفتوحاً أمام المغامرين والديماغوجيين الذين يسعون نحو الاستيلاء على الدولة. وهذه الديمقراطية لن تعالج أزمة الهوية، بل هي ترسخها وتعمل على إدامتها.
المعضلة أيضاً في ثقافتنا السياسية التي يتم النظر من خلالها إلى الدولة بمنظارَين مختلفين، الأول منظار نخبوي يرى في الدولة باعتبارها تمثل المجتمع وتتعالى عن تناقضاته، وتنفذ إرادتها من خلال حكم المؤسسات وفاعلية القانون، وأن تكون ضامنة للحقوق والحريات.
أما المفهوم الذي بات حاضراً في ذهن المواطن الباحث عن الدولة، فهو يريد أن يتلمس وجودها من خلال قدرتها على منع الانفلات الأمني وفرض هيبتها بالقوة والقهر، ولعلَّ المواطن له كل الحق في اختزال الدولة بوظيفة احتكار العنف وممارسته بعد الأهوال التي شاهدها من تخاذل الحكومات عن وظيفتها الأمنية، وباتت مافيات السلاح هي من تتحكم بأمنه وأمانه وتصادر وظيفة الدولة.
وبالنتيجة لم نحظَ، لا بالمفهوم النخبوي للدولة ولا بمفهومها الذي يحصرها بوظيفة واحدة فقط؛ لأنَّ الغلبة دائماً لمن يهيمن على الدولة ويتحكم بمقدراتها ويسيطر على مواردها. وستبقى الدولة مشروعاً مؤجَّل التنفيذ، وما هو موجود من رمزية وعنوان الدولة يخوض صراعاً للحفاظ على ما تبقى منه.
إذ لا زالت مشاريع الهيمنة على الدولة هي التي تهمين على تفكير وسلوك القوى السياسية في العراق. ولذلك تعطّل كثيراً مشروع بناء الدولة، لأن المرتكزات الرئيسة التي تشكل إجماعاً وطنياً وتنهي حالة اللادولة، لم يتم الاتفاق عليها بعد.
فطالما لم يتم حسم قضايا رئيسية مثل العلاقة بين المركز والأطراف والشكل النهائي للمؤسسات ودور الدين في الحياة السياسية سيظلّ الصراعُ قائماً ومحتملاً ويظل احتدام المواقف وفرصة الآخرين للتدخل كبيرة. وكما يقول فالح عبد الجبار في نهاية مقدمة كتابه العمامة والأفندي: "المجتمع الممزَّق على أساس الهويات دون الوطنية، المحترب مع نفسه لن ينتج دولة، وكما قلت مراراً العراق بحاجة إلى أن يتصالح مع نفسه أولاً. بخلافه لن تكون ثمّة دولة."
إن أزمة العراق هي أزمة مشروع وطني يحمل الجرأةَ والقدرة الخلاقة على بناء هوية للأمة العراقية ترتكز على ثالوث: الرؤية والقيادة والمؤسسات. وبدون هذا المشروع لا يمكن لمعضلة هذا البلد أن تحل، بل إنها ستظل تنتج أزمات متتالية وصراعاً دائماً على السلطة بين الهويات الفرعية وجماعات متطرفة تريد فرض نفوذها على الدولة، أو التنافس معها في وظائفها السيادية. أو ديكتاتورية تعيد تجميد الحراك الاجتماعي لإنتاج دولةٍ بوليسية تعيد دورة الحكم إلى ممارسات العنف الوحشي المفرط ضد المجتمع.ِ
مشاهدة 1726
|