ZNA- أربيل يضع الرّسام الكوردي العراقي شوان عاصي مصطفى خلاصات فهمه الأكاديمي ضمن نسيج حرصه على ديمومة علاقاته الوثقى بالرسم المجرّد من أيّ تداخلات أو إضافات زائدة أو طارئة لا تقع خارج سياق ذلك الفهم القصدي الواعي والمدروس لخلاصاته، والتي من شأنها أن تُربك جدل العلاقة الروحية والعاطفية التي تنشدها وتتوق إليها لوحاته الغارقة في ينابيع ألوان صافية، طافية في فضاءات مبهجة ومريحة، قادرة على بث مفاتن جمال ووجوه أجسام نسائه الهائمات في متون أحلام اليقظة.
إذا كانت “اللوحة هي المساحة التي يتعرّف فيها الفنان على نفسه”، وفق ما قاله الفنان الراحل عمر حمدي الشهير بـ”مالفا” (1951 – 2015)، فهل هي كذلك لدى الفنان العراقي الكوردي شوان عاصي مصطفى؟
يكفي أن نلقي نظرة سريعة على لوحته حتى نجده مبعثرا فيها، راسما سبله إلى نفسه ومجسّدا تلك الثنائيات التي تبحث عمّا يكملها، عمّا تناثر من ملامحها وعمّا تساقط، علها تستطيع أن تجمعها وتلم شملها باستراتيجيات خاصة تنشط دوافعها وتفتح حاويات مشاعرها لتتدفّق بقوة وغزارة حتى تغرق المشهد كله، غير آبهة بالمخاوف والحالات الانفعالية التي قد تظهر على السطح، ومع مرور الزمن قد ينخر المشهد ذاته، فلا بد من الاهتمام البالغ بها قبل أن تحدث فيها تطوّرات قد لا تستطيع الإحاطة بها لاحقا.
تخييل وكشف
البيانات الخاصة الحاصلة في لوحات مصطفى قد لا تتّضح من المشاهدة الأولى، إذ لا بد من ممارسة أكثر من مشاهدة واحدة حتى يبدأ الغموض فيها بالاتضاح رويدا رويدا وقد يصل إلى حد التلاشي تبعا لعدد المشاهدات.
تلك البيانات الخاصة التي يسعى الفنان العراقي لتوفيرها وإن بجرعات منقّطة ومقطّرة هي من الأمور التي ستتردّد أصداؤها دون أن يفقد المشهد جماليته، ستتردّد في خطوات متلاصقة وفي تنوّع جريء حتى تحافظ على مستواها المرتفع السار من الاستثارة.
فالطبقة الأكثر تركيبا والأكثر غموضا هي التي ينقذها المشهد من الملل الممجوج، ويرفع من قيمتها وبالتالي يزيد من جمالها، فالمسألة هنا احتمالية والعلاقة بين المشهد والأذواق هي علاقة تستوجب النظر إلى داخل كل مستوى من مستوياتها، وإلى كل عامل من عواملها كالعمر والثقافة والانتماء الاجتماعي والاقتصادي.. إلخ.
وحينها يمكن فهم تلك العلاقة وتبايناتها، وفهم تزايد تداخلاتها وما تتركه من أثر حين يعزّز تصوّراتها المطروحة بتقدير الاحتمالات التي تتوالد وتحتاج بدورها إلى قدرة عالية في الرؤية تمكنها من أن تخدم عوامل بقائها واستمرارها في المشهد نفسه.
وهذا يرفع من أهمية تكوين العلاقة بين المتلقي/ المتذوّق والعمل الفني، والتي ترفع من منسوب التخييل والكشف لدى الأول كما تزيد من خصائص الفراسة والتعبيرية لديه، والتي سترفع من درجة الثقة بينهما، وبالتالي ستنشط حالات المتعة لديه وتجمهرها حتى تصل بها إلى حالة من التوحد، حينها سيظهر المشهد أكثر جمالا وأكثر حياة.
توقّع ما سيكون
شوان عاصي مصطفى المولود في كركوك عام 1968، وكشكل من أشكال التركيز على المضمون الخفي غير الظاهر في منجزه الفني وموازاة مع التركيز على الطريقة التي من خلالها أبدع هذا المنجز، يسعى للارتباط بعمليات التوقّع أو الاستباق لما سيأتي، وقد يظهر في مواجهته أكثر من منحى بعضها ضمني كامن وبعضها الآخر واضح وصريح، وعليه أن يعتمد على أحدها، وسيكون من الأولى حتما، من الضمني الكامن الذي سيجعله متعاطفا معها وإن كان فهمه لها مغايرا، فهو يركّز على ضرورة فهم تجربته الجمالية.
ولهذا يركّز أكثر على تلك الاستجابات السلوكية التي تخلقها هذه التجربة في المتلقي على نحو عام، وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن مصطفى قد يخلق شرخا في ذائقة متلقيه، أو لنقل انقساما فيها، ولكل طرف منها حرية الاختيار، وليس لمصطفى أن يستبعد أيا منهما، عليه فقط أن يدع ذائقته الخاصة جانبا وهذا قد يثير الدهشة ذات الأثر الإيجابي الذي يقوم على منطق السبب والنتيجة، أو على التوازي السردي الذي يتم من خلال الزمن غير السائد غالبا، أو بلغة أخرى على أساس من تداخل الأزمنة مع الاهتمام بما تطرحه من أسئلة لا بما تقدّمه من إجابات.
كما أن انفعالات أو عمليات معرفية أخرى قد تدخل على الخط لتحريض عملية المشاهدة لدى المتلقي حتى تبدأ المعاني والدوافع والاهتمامات بالتوالد، وهذه إحدى الحالات الخاصة في فهم المنتج وهو يتأرجح في دواخله بين الانفعال والمعرفة مع عدم إغفال عملية الفردانية للمتلقي ذاته، وهذه أمور جدير أخذها بعين الاعتبار.
وقد تصل بنا هذه الانفعالات الخاصة إلى حالة من الفهم لبعض العلاقات المركبة الموجودة بين انفعالاتنا التي قد تقرّبنا من مقولات المنتج، أو من التعاطف معها على الأقل؛ فالإشارة إلى ما حدث، أو إلى ما يمكن أن يحدث، أو إلى ما سيحدث هي عمليات تطهير شاملة لمجمل الجوانب الانفعالية والمعرفية تميل في جوهرها إلى ربط المتلقي بالمنتج بكل أحلامه وآماله.
الشيء اللافت للاهتمام أن مصطفى يفهم سيكولوجية متلقيه، ويدرك أن المتلقين يفضلون المثيرات البصرية التي تتّسم بدرجة ما من جهد الاستثارة الذي سيشير بدوره إلى مجموعة دلائل ستميل به نحو الاستجابات الجمالية غير المألوفة، وكلما ارتفعت نسبة الجهد المشار إليه ارتفعت درجة الاستجابات.
ومن هنا تبرز أهمية عامل الجدة في رفع القدرة على إثارة الاهتمام والانتباه، التي تقوم في النهاية على أساس الحاجة إلى التواصل مع المتلقي، وهو أمر يحدث على نحو تدريجي، وبقدر ما تواجد متلقّ خاص كانت التفسيرات مقنعة بالتغيرات الجمالية.
وشوان عاصي مصطفى يمكن أن تأخذه تلك التغيّرات في محتواها الجمالي، وهي ليست تنبؤات خاصة محدّدة حول التتابع الخاص بالمحتويات، بل هي تأكيدات على أن تلك التغيّرات موفّقة بدرجة كبيرة وتحقّق قفزة للقيمة المعطاة لها، فما تفعله من خلال النظام المنتج للعمل المبدع سينعكس حتما في مستواها القيمي، خاصة إذا أدركنا أن العمل المبدع طارد للضغوط المناوئة له، وهذا يزيح عن كاهلها كل ما يمكن توقعه.
والفنان العراقي الكردي يدرك جيدا أهمية البعد عن المألوف، فكما الشعر يفقد الكثير من خصائصه إذا تحوّل إلى نثر كذلك حال العمل الفني/ اللوحة الذي لن يحقّق أثره المنشود من وراء إبداعها ما لم تحافظ على لغتها الخاصة التي تكون في حال بناء دائم، والتي تجعل كل التوجهات البنائية أو التركيبية ممكنة فقط عبر المرور بخبرة الأثر الانفعالي الناتج عن عمليات التغيير والتجديد.
العرب
مشاهدة 1741
|