ZNA- أربيل عندما يكون الخيار السياسي لمستقبل العراق بين رجلي الدين عمار الحكيم ومقتدى الصدر، فهذا يعني أن البلاد برمتها يمكن أن تتحول إلى مسجد كبير أو حسينية أو مزار غامض يرسخ ثقافة القطيع السائر صوب الخرافة التاريخية السائدة في العراق منذ عام 2003.
ليس الصدر والحكيم وحدهما الخيار الديني قبل السياسي للعراق، يوجد من يقابلهما ضمن قائمة طويلة مشابهة، وإن كان أفرادها من غير المعممين. رجال الدين الأفندية في السياسة العراقية أولئك الذين تعلموا شد أربطة العنق بمجرد ولوجهم المنطقة الخضراء.
عندما اخترت الحكيم والصدر في هذه المتراجحة الدينية السياسية الطائفية فلأنهما في عمر سياسي يرجح أن يستمرا به أكثر مما كان متاحا لإبراهيم الجعفري مثلا، مع أنه لا يقل كراهية طائفية عن الصدر والحكيم، أو نوري المالكي الذي احترق قبل أن يصل إلى ربع عمره السياسي.
التنافس بين الأسرتين
الأهم من ذلك، التنافس بين أسرتي الحكيم والصدر على مجد طائفي تحول إلى موقع سياسي لاحقا وكراهية شديدة عادة ما يتعلمها رجال الدين الطائفيون من المرويات التاريخية.
ومع أن عمار ابن التربية الفارسية المتعلمة بذكاء للمخادعة والمخاتلة وإخفاء الضغينة، إلا أن مقتدى مثل والده محمد الصدر كتلة من الجهل والصلافة عندما لا يخفي كراهيته لعمار علنا. في إحدى الجلسات المصورة وبّخ أحد أتباعه من رجال الدين المعممين لأنه أثنى على عمار في حوار تلفزيوني.
بينما عمار الذي يستخدم لغة سليمة في خطاب أعجز من أن يصل إليه مقتدى، لم يجهر بكراهيته لمقتدى. حتى أن والده عبدالعزيز عندما تلقى مثل هذا السؤال عن التنافس تذرع في إجابته بأن المشهد في العراق الجديد يتسع لأمثال مقتدى!
العراقيون يعرفون الصدر، لكن عمار القادم إليهم من بيئته الإيرانية بعد عام 2003 كان ينظر إليه وفق المرويات عن جده المرجع الشيعي محسن الحكيم الطباطبائي المتوفى عام 1970 في النجف.
كان عمار البذرة التي بقيت بعد مقتل عمه محمد باقر الحكيم في انفجار دامٍ في السنوات الأولى من احتلال العراق، ومن ثم وفاة والده عبدالعزيز في أحد المستشفيات الإيرانية متأثرا بالمرض.
في زمن ما كان رجل الدين في العراق يحظى بنوع من الاحترام، لكن نموذج “العميل الإيراني” الذي جسده بامتياز عم ووالد عمار أسقط ما تبقى من هذا القدر وتحول رجل الدين إلى ذيل يعبر عن الفساد والعمالة. فالرجلان قاتلا مع القوات الإيرانية في الحرب التي يفترض كانت ضد بلدهم وأهلهم (دعك من أصلهما الطباطبائي) ووصلت الصلافة بوالد عمار أن يطالب العراق (مازلنا نقول بلده) بتعويض إيران مئة مليار دولار عن سنوات الحرب!
وهكذا ورث عمار تركة عمه ووالده “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” لكنه بعد “استلام الحكم”، وفق تعبير صولاغ جبر أحد أكثر الأبناء المخلصين لهذا المجلس الذي تأسس في أروقة المخابرات الإيرانية وقاتل ضد العراقيين في صف إيران، صار عليهم في المجلس إلغاء كلمة “الثورة” من الاسم.
وجد عمار نفسه بين من يسعى إلى الحصة الكبيرة من غنيمة العراق المختطف، فميليشيات المجلس الأعلى المتمثلة بفيلق بدر استحوذ عليها هادي العامري الأكثر إخلاصا من عمار وأسرته لإيران، ومعممي المجلس من همام حمودي وجلال الدين الصغير وأفنديته من عادل عبدالمهدي وصولاغ يتنافسون على ذهب العراق بعد أن تركوا فضته لغيرهم.
وهكذا عاد عمار إلى أصله في “تيار الحكمة” مشتقا من اسم أسرته، فليس من السياسة بشيء اختيار أصل اسم الأسرة الفارسية الطباطبائي الذي كان يجهر به جده وعمه في العراق إلى غاية سبعينات القرن الماضي.
لكن ما أصل تلك التسمية إذا كان اسم العائلة الحقيقي هو الطباطبائي؟
المرويات النجفية تقول إن الطباطبائي الجد الأعلى لعمار قدم إلى العراق من إيران ليداوي العامة والزائرين لمرقد الإمام علي في النجف بالأعشاب والأدعية، إلى أن تحول الاسم إلى حكيم أعشاب. واندمج ابنه بعدها في أقبية المدارس الشيعية التي كانت تدفع بالإيرانيين أكثر إليها.
لكن ذلك لم ينه الحال إلى أسرة الحكيم وحدها للسيطرة على المرجعية الشيعية، فالأسر الفارسية كانت تدفع أبناءها للتعلم في الحوزات، كي تتنافس على ذلك المنصب الروحي للشيعة وهو في الوقت نفسه يدر أموالا تعادل موازنة بلدان عبر التبرعات من أغنياء وتجار الشيعة فضلا عن الخمس الذي يصله.
كانت العوائل الفارسية تتوارث هرم المرجعية؛ فبعد جد عمار، محسن الحكيم، جاء أبوالقاسم الخوئي (ابنه عبدالمجيد عائد إلى العراق مع القوات الأميركية وقتل في النجف بعد أيام من دخول القوات المحتلة وكل الدلائل تشير إلى أن مقتدى المتهم الأول في قتله) ومن ثم عبدالأعلى السبزواري وإلى أن وصلنا إلى علي السيستاني، وجميعهم إيرانيو الجنسية. بينما الأسر الشيعية العربية تبحث لها عن مدخل لاستعادة المرجعية، وهذا كانت تفعله أسرة الصدر المحسوبة على العراقيين أكثر.
يكفي أن نتخيل أن كل جبروت وتأثير نظام صدام حسين الذي كان يدفع لمرجعية شيعية عربية عجز أمام تشبث الأسر الفارسية بهذا المنصب.
من اغتال والد مقتدى
عندما شجع النظام السابق والد مقتدى محمد صادق الصدر ليستقل بمرجعيته العربية ويكون المنافس للمراجع الإيرانيين فشل في إحداث أي اختراق، حتى تم اغتياله منتصف تسعينات القرن الماضي، بعد أن كانت تسمح له الدولة آنذاك بخطب عامة وصلاة جمعة يشارك فيها الآلاف، وإن خصص بعضها للهراء السياسي.
واتهمت أوساط الصدر المجلس الثوري ومحمد باقر الحكيم والمخابرات الإيرانية بقتله، فلم يكن الحكيم يخفي كراهيته لمحمد الصدر وكان يعتبره مرجع نظام صدام حسين.
في واحدة من خطب محمد الصدر التي مازالت متداولة على يوتيوب يزعم فيها أن أكبر ملف في البنتاغون هو للمهدي المنتظر، تنتظر الجيوش الأميركية متى يظهر كي تهجم عليه!
هكذا كان التنافس بين أسرتي الحكيم والصدر على المرجعية، الذي تحول إلى كراهية امتدت إلى اليوم ما بين عمار ومقتدى.
عمار ومقتدى في سنٍ لا تؤهلهما لولوج أقبية ومساومات المرجعية الشيعية، فما متاح لهما البلد المخطوف، فحكم العراق أعم وأشمل وأثرى من مرجعية الشيعة.
مع ذلك لو اجتمعت كل مخاتلة عمار وهمجية مقتدى للإجابة عن سؤال “هل أنتما رجلا دين أم سياسة؟” لعجزا معا، لأن أي إجابة يمكن الرد عليها بسهولة بأن السياسيين الكبار هم كذابون كبار. فكيف تسمحان لصورة رجل الدين الورع أن يكون كذابا!
خمسون عاما عمر عمار الحكيم، لم يقض منها سوى ثمانية عشر عاما في العراق، وأنا هنا لا أشكك بوطنيته لكنني أطالبه بالإجابة عن سؤال متعلق بمنسوب ولائه لإيران مقارنة بالعراق بلده المفترض!
بالنسبة إلى مقتدى الذي يصغر عمار بثلاث سنوات سيصبح أي سؤال موجه إليه نوعا من اللغو والعبث عندما ننتظر من رجل عاجز عن صياغة جملة مفيدة أن يتمخض ذهنه عن أفكار.
بين رجلي الدين الشيعيين تدور اليوم معركة سياسية في الانتخابات العراقية، فالكراهية التاريخية بينهما ستتحول إلى كراهية سياسية، فكيف للعراقيين أن يأمنوا أيّا منهما عندما تكون بيده مقاليد الأمور.
إذا كان مقتدى أو من يمثله من يحرك الحكومة القادمة، فعلينا فقط تذكر جرائم جيش المهدي الذي كان يحطم رؤوس الأبرياء على الهوية.
أما إذا فازت قائمة تيار الحكمة المتحالفة مع حزب الدعوة جناح حيدر العبادي، فلنا أن نتخيل كيف يمكن بناء دولة عبر نقل تقاليد المسجد والحسينية إليها.
العبادي شريك عمار الانتخابي، فبعد أكثر من ثلاثة عقود عاشها في بريطانيا لم يتذكر من بلاده غير زقاق الحسينية القريب من دارهم القديمة، وكيف كان يضرب صدره في عاشوراء فعاد إليه مع أول أيام عودته
للعراق. فإذا كانت كل سنوات الحرية البريطانية لم تغير العبادي، فكيف يمكن لنا أن نأمل مِمَّن عاش ودرس أكثر من ثلاثين عاما في إيران أن يتخلى عن ولائه الإيراني. ذلك ما يريد أن يلفق به عمار سيرته للعراقيين.
إنه مغر سياسيا وطائفيا عندما يتكلم، لكنه في الواقع خارج بقوة من متن كتاب "الاحتجاج" للطبرسي الملي بالهراء.
عندما اصطحب ابنته للتصويت في انتخابات سابقة، كان يعبر بامتياز عن حقيقته. فابنته المسكينة التي لم يتجاوز سنها الأعوام الأربعة كانت قد وضعت في كيس أسود ولم يظهر منها سوى عينيها الطفوليتيْن، ولولا العلم العراقي الأحمر الذي كانت تلوح به لما شاهد الناس غير قطعة سوداء صغيرة وبريئة جوار والدها المعمم.
هكذا يفكر عمار الطباطبائي، دعك من خطابه المفذلك، فمثله من أبناء الطائفة يوجد الكثيرون.
واحد من أهم تصريحاته الأخيرة التي تعبر بامتياز عن طريقة تفكيره الطائفي فند كل مزاعمه الانتخابية عن “عبور الطائفية” و”محاربة اللاّدولة” التي تمثّلها الميليشيات، عندما دافع عما سمّاه الأغلبية الشيعية.
وقال "الشيعة أينما كانوا أغلبية فعليهم احتواء شركائهم الآخرين على اختلاف تنوعهم”، معتبرا أنّ "العراق هو موطن التشيع الأصيل".
وعزا سر قوة الشيعة إلى التركيز على المرجعية، والشعائر الحسينية والتماسك الداخلي والتعايش.
لسوء الحظ، لا توجد لدى مقتدى أفكار مقابلة لحكم العراق كي نجعلها معادلة للمقارنة مع عمار، دعك مما يكتب له على مواقع التواصل، فمن السهولة بمكان أن يحكم المرء على أمية مقتدى لمجرد سماعه يتحدث.
مقتدى وعمار جزء من المشهد العراقي الرث، وسيصبح أكثر رثاثة لمجرد أن نتخيل أن رجل دين بعمامة سوداء أو بيضاء سيكون رئيس وزراء العراق أو يحرك من يختاره من أفندية الشيعة لهذا المنصب.
أي قدر هذا يجعل نوري السعيد مثلا يتأمل حال البلاد التي تحولت إلى مسجد كبير يسير بالشعب صوب الوهم التاريخي.
ألا يستحق العراق أقسى أنواع تراجيديا الرثاء السومرية عندما ينتهي مصيره بيد عمار أو مقتدى؟
العرب
مشاهدة 2110
|