ZNA- أربيل “الطموح لا يتحقق أبداً، والبحث مستمر”، مقولة أطلقها الفنان التشكيلي لقمان سلام (الموصل 1967) أو لقمان دهوكي كما يحبّ أن يعرف به، مقولة تكاد تلخص جوهر فهمه لحياة الإنسان والمجتمع بوصفها عملية ديالكتيكية وموضوعية للتطور التاريخي للواقع ذاته، مقولة أشبه ببوصلة تمضي به لا إلى حتمية عدم الوصول فحسب بل إلى التأكيد على استقلالية الإنسان وإن كان هناك فعل منعكس لتأثير العالم المحيط في رأسه، وإلى التأكيد بقوته الإبداعية، فهو المنبع للضوء وللفلسفة اللتين تشيعان التفاؤل والثقة في المستقبل وبجعل جوهر الإنسان هو النابض بالحياة.
المسألة هنا لا هي نسف للقبح أو نبذ الوصول، بل مجال للتداخل الشامل لفانتازيا خلقها الإنسان ذاته، والتي هي ليست أكثر من انعكاسات خيالية وهمية لجوهره، أقصد لجوهر الإنسان المرتبط بالحياة من خلال المتعة الفنية التي تتم تهيئتها من تدفق مختلف أشكال الصيغ الفنية القادرة على توصيل الأفكار مهما تضاءل فيها منسوب الحقيقة ومهما تعرضت لسطوة الترميز والغموض، فالحالات التي تنطوي عليها بعض التجديدات الفنية تغتنى بالتركيز الفائق على الأحاسيس التي تعطي أصالة وعمقا للمنتج الفني وليقول لها التاريخ لاحقاً من هنا مرّ مبدع مّا بمأساته ومعاناته، برخامة طموحه ومهابة عناده.
حقيقة الحياة
أسوق هذا الكلام لأعود إلى مقولة دهوكي بأن الطموح لا يتحقق وبأن البحث مستمر، فهو بذلك يرفع من شأنه ومن شأن ما يتجلى فيه من عناصر جمالية، كما يرفع من شأن الإنسان وما يبدعه مجسداً ذلك في أشكاله الفنية المعتمدة صراحة على ذائقته الفنية في تعدّديتها وحتمية عدم نضوبها وعدم يباسها، فهو يسير إلى الحياة بتروٍّ وبتحفظ هادئ لأنه يدرك بأنه ينشد تجربة متنامية بخصوص استخداماته لأشكال تعبيرية غير عصية على الفهم، متنامية بأسلوبه المتماسك الذي يُصَعِّد من مهمة تجسيد تأملاته حول ظواهر واقعية في معانيها العامة.
كما يأخذ الفنان من التجسيد معيارا فنيا لحقيقة الحياة، لهذا لا ينسف تلك الأطر التي ينبثق منها خصائص جديدة بها سيصوغ أساس المبادئ العامة لواقعيته التعبيرية في بنائه الفني الملائم لها، وهو دون شك يمتلك من الإمكانات ما يجعل من تأثيره على ذلك البناء يأخذ أهمية أوسع، وما التقاطه للوحات الحياة اليومية والقضايا المعاشية إلا صعود في هذا الاتجاه وبمداه التاريخي.
ولعل من أهم الملامح البارزة و المميزة لتجربته هي كشفه لعوالم الإنسان الداخلية من خلال الجوانب كلها، ومن خلال علاقاتها بالعالم الخارجي مصوّراً أفعال الناس وعلاقاتهم من خلال عوالمهم الاجتماعية والتاريخية، وهو على دراية تامة بأنه لا يمكن أن يكون العمل الفني شكلاً للواقع، أي لا يمكن أن يكون نسخة بسيطة عن الواقع، ولهذا فهو يقارب الحقيقة في تصويرها من خلال جدال مكثف
بين الوجه الخارجي للظاهرة والوجه الداخلي لها، دون السعي إلى المطابقة بينهما، بل يقترب منهما معرفياً مؤكداً أن حركة المشاعر هي التي تولع تفاصيل الأشياء محولاً عوالمها إلى تشكيلات فيها تتجسد لغته التعبيرية التي هي أقرب إلى مآثر تجري في صميم أحاسيسه الواضحة منها والمفهومة والقادرة على الانتقال إلى تصورات جمالية قد تشكل انتفاضته الفنية التي ستعكس حركة الواقع نفسه وتطوّره، والمبهمة منها التي هي أشبه بعمليات استيعاب لتجلياته المختلفة في خلق أشكاله المختلفة.
يقيم دهوكي عالماً متخيلاً للعالم الواقعي وهنا تبرز مقدرته الخلقية بشحناتها العاطفية التي ستحقق وظيفة الاتصال لديه، والقادرة على التعبير عن شعوره وما يسعى له من تصوير الناس في حركة مستمرة، تبرز مقدراته العالية على خلق إضاءات فنية للحياة وما تشملها من جوانب الواقع الإنساني جميعها، بعلاقاتها المتبادلة والمترابطة، والمفعمة بالحب والعاطفة، أو في سيرورة تطورها وفقاً لروح الزمن ذاته، الروح الغنية إلى ما لا نهاية شكلاً ومضموناً، مهما اتسمت بها من مسالك ومنعطفات مختلفة والتي قد ترسم سبل أهميتها بحيثياتها الذاتية والموضوعية والاجتماعية والتاريخية والنفسية والفكرية والأخلاقية.
تقوم واقعية دهوكي التعبيرية على أرضية من المعرفة الجوهرية للحياة، مستوعباً خفاياها وقوانين تطورها وآليات نشوئها، فيمزج بينها وبين تلك المعرفة حتى يخرج بطروحات عميقة في شكلها الفني ملازمة لخط تطوره الإبداعي، مجسداً بالفعل علاقاته الفعلية بالعالم الواقعي المحيط به، متفهماً لقوانين تطورها وهي تعبر عن نفسها لا في التقاط المواضيع والصور من الواقع المحيط به فحسب، بل في أدواته الفنية ونظام تعلقه بطبيعته الذاتية.
وكأنّ لسان حال الفنان يقول إن العمل الفني هو الشكل الفعلي للحياة، وهذا ما جعله يقارب أمورا وظواهر ثانوية قد تبدو قليلة الأهمية عند الآخر، لكن عنده هي التي تدخله في صلب سياق الحياة حتى توصله إلى زواياها البعيدة مهما وضع أمام ظروف غير منسجمة مع شخصيته وما يتفرع عنها من رغبة وطموح ذاتي، الطموح الذي لا يتحقق فعملية البحث عنه لا تتوقف أبداً.
حكايات الوجوه
يتعامل دهوكي مع مساحات اللوحة بحرارة في التعبير بعد تنظيمه لانفعالاته وشحناتها، واستيعابه لها، حينها فقط لا تكف القيم التشكيلية الواقعية في طرق عواطفه فيستقبلها بحضور واع، مضيفا عليها تعبيريّته في اللغة التي تحرك كل مفاصله كما تحرك كل مفاصل اللوحة، وقد يكون هذا شكلا من أشكال الخصوصية التي يحاول تثبيتها في ثنايا منتجه وكأنه يصر على طرح أشكال جديدة بواقعية جديدة، بواقعية تعبيرية تلخّص تجربته الطويلة، التجربة التي بها سيستمر في كشوفاته التي ستأخذ منه دور تكثيف المعاني الإنسانية، التي ستبقى فواحة بوهج تجربته وبما تحمله من عناصر إنسانية متعددة، فأهمية تلك التجربة مبنية على أهمية لونه وأهمية تحريكه وتوزيعه على مساحاته البيضاء.
لقمان دهوكي متفهم لتلك المواد والعناصر التي وجدت لضرورات زمنية كما هو متفهم لحاجته كفنان للتعبير عن هواجسه وتطلعاته ومدى قدرته في قيادة حلمه ورؤياه، فيهرب من الزحام حيناً ليدخل إلى تفاصيل وجه يحمل قدسية الحياة وجمالها، أو يحمل ملامح القلق الممتلئ بالحزن والتعب، يهرب من الزحام حيناً ليعطي لوجوهه طفولتها وغربتها، زخمها وعذاباتها، لغتها وذاكرتها، متأملاً فيها إلى حد الغرق، إلى حد تروي أسرارها بكل تفاصيلها وكأنها في حضن عاشق يبحث فيها عن كل ما يود أن يرافقه في المكان الذي لا حدود له.
ويهرب الفنان إلى الزحام حيناً للمس روح المشهد بكل مكوناته ومؤثراته، المشهد الذي لن يكون بديلاً عن جغرافية وجوهه الجديرة بالانتماء إليه، بل دعوة لكشف الجوهر الإنساني في فصولها المختلفة، الساخنة منها والباردة، الحاملة لهويتها في ظل مكان مازال يبحث عن تفصيلات اللحظة المقبلة، فهو يساهم إلى حد كبير في صياغة قساوتها الكردية، فما الوجوه التي يكثف تركيزه عليها إلا مرايا لتراكمات زمنية قطعت مسافات طويلة جداً قبل أن تستقر عليها، وتشكل كل كلامها الذي لم تقله بعد، فعبر هذه الحركات اللونية وبتفاعل حسي فيما بينها يقترب جداً من لحظات التوتر والانفعالية وهي ترسم كقضايا على محياها، بينما تمضي في نسج حكايتها لتسردها للمتلقي لاحقاً، تسرد له في كل مشاهدة إحدى فصولها، الفصول التي لا تنتهي، والتي ستبقى في تدفقها طالما هناك من جاء لزيارتها ليسمع هسيسها.
العرب
مشاهدة 2002
|