عندما نريد أن نتحدث عن قرار الإنسحاب الأمريكي المقصود من أفغانستان وتركها تحت رحمة طالبان، ونقارنه بإحتمال الإنسحاب من العراق، علينا أن نعلم أولاً أن القرار يخص واشنطن وحدها، وعلينا أن نتحدث عن الشواهد المترامية الأطراف، وأوجه التشابه والإختلاف بين البلدين، في الأقل بالنسبة لأمريكا، وأن نتحدث أيضاً عن التشابه والإختلاف بين طالبان التي ستتصدر المشهد وتتسلم السلطة هناك، وبين الجماعات التي تعتبر أرقام صعبة في المشهد العراقي والتي (ربما) تتسلم السلطة في العراق. وعلينا الدخول من منظار الواقع والوقائع في سجالات ونقاشات سياسية تبدأ بالتعقيدات والمعوّقات الداخلية والخارجية الموجودة هنا وهناك، والمعادلات التي تطوق نفوذ طالبان وتعظم نفوذ الجماعات التي تعتبر أرقام صعبة في العراق، وتمنحها مكاسب تسهم في إشعال البلد والمنطقة بدلا عن التهدئة والإستقرار.
الإنسحاب العلنيّ اللافت للقوات الأمريكية من أفغانستان، إنسحاب محسوب بدقة متناهية من عارف، ورسالة واضحة تشير إلى قدرة أمريكا المعروفة على إستنزاف الآخرين برياح التقاطعات والتشعّبات، وإشغال الجميع بالاشتباكات العبثيّة والدوران في الحلقات المغلقة، وإخلال التوازنات القائمة وفق معادلات جديدة لتوزيع الأدوار، بالطبع مع حفظ المكتسبات. لذلك علينا أن لا نسلّم ولو جدلاً أنّ أمريكا تنازلت وعجزت وضعفت أمام طالبان، لأن ذلك شبه مستحيل ويتعارض مع مشروعه العابر للقارات. لكن علينا أن نقلق بشأن التطوّرات التي تحبس الأنفاس وتُعطي انطباعاً أكيداً عن الاستعداد لشيء ما، ربما يرتقي إلى الإستعداد لإستعادة الدور والنفوذ وإعادة رصّ صفوف الأصدقاء والحلفاء القدامى والجدد تمهيداً لمواكبة المرحلة المقبلة وتبلور الأمور.
أمريكا تترك أفغانستان وهي مطمئنة من أن التي تحل محلها وتستحوذ على السلطة هي حركة طالبان التي يمكن ان تكون (نسخة جديدة وناضجة أمريكياً) يمكنها أن تؤدي دوراً محورياً في التعامل مع التحديين الصيني والروسي في المنطقة.
وفي ذات الوقت، لا يمكنها أن تكون جيراناً هادئاً وأميناً لإيران التي تعتبرها عدواً لدوداً للشيعة داخل أفغانستان وخارجها، وطالبان تشكل حكومة تتنكر للمساعدات الخارجية التي نالتها خلال مناهضة الأمريكان، وستنسى التودد وإغداقات الثناء لها عندما كانت بحاجة الى أكثر من كلام. وتنقلب على أصدقائها كما إنقلبت على باكستان التي ساهمت في صنعها، وتتحول الى خطر حقيقي ضد روسيا التي تعتبرها أفعى سامة، وضد جميع جمهوريات آسيا الوسطى، خاصة طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان، كما تقلق منها الصين خوفاً على مستقبل إقليم شينغيانغ وتعقيد الأوضاع فيه.
أما العراق، فلو تركه الأمريكان حيث غالبية الخيارات فيه رديئة وتسبب الإرهاق وتدعو الى اليأس، فمن يستلم زمام الأمور وإدارة البلد؟ إما الأحزاب التي إستولت على السلطة منذ 2003 والتي فشلا ذريعاً ومريعاً في كافة مناحي الحياة. أو يعود البعث، أو يأتي داعش ليفسد في الأرض، أو الميليشيات المسلحة المنفلتة غير القادرة على التعايش مع الآخر. حينها يمكن أن يتحول (العراق) بسهولة إلى محور لإرهاب مرعب، يزيد التعقيد على الأوضاع المعقدة الحالية، في منطقة تبسط فيها أمريكا هيمنتها وترتبط بعلاقات قوية مع العديد من دولها ويهمها حفظ أمنها.
بإختصار شديد، لا أحب أمريكا ولا أدافع عنها، ولكن بناء الآمال على رمال صحراء إنسحابها من العراق، سابق لأوانه، لأن أمريكا دولة مؤسسات تغيّر أولوياتها وتستطيع إعطاء جرعات الصدقية لسياساتها مع قدر كبير من الكذب والتدليس والترهيب والترغيب، وفي تاريخها تحولات لا يمكن التنبؤ بها. ولا تجرب المجهول وتستطيع معرفة الخيط الأبيض من الأسود بقوتها وقدرتها على إيجاد الشركاء والحلفاء. وفي أحايين كثيرة تدخل في إتفاقيات حتى مع من تسميهم (أعداء).
مشاهدة 1810
|