سجلت إيران، عن طريق “الحشد الشعبي”، نقطة على الحكومة العراقيّة برئاسة مصطفى الكاظمي، أقلّه ظاهرا. اضطر القضاء العراقي، مستندا إلى حجج واهية إلى حدّ كبير، إلى إطلاق قاسم مصلح قائد عمليات “الحشد الشعبي” في محافظة الأنبار. جاء إطلاق قاسم مصلح، المتهّم في قضايا تتعلّق باغتيال ناشطين سياسيين، ليكشف مشكلة القضاء الذي يشرف عليه شخص يطمح إلى أن يكون رئيسا للوزراء في يوم من الأيّام.
يمكن الذهاب إلى حدّ اعتبار أن الحكومة العراقيّة استسلمت لـ”الحشد الشعبي”، لكنّ مقارنة بسيطة تُظهر أن تحسنا طرأ على أداء المؤسّسة العسكريّة في الأشهر القليلة الماضية من جهة وعلى وجود رأي عام يتوجّس من إيران. بقي قاسم مصلح محتجزا طوال أسبوعين ولم يطلق إلّا بناء على تدخل القضاء الذي باتت هناك علامات استفهام تطرح في شأن أدائه ومدى تسييسه.
حاول “الحشد الشعبي” بميليشياته المتنوّعة ممارسة ضغوط مباشرة على رئيس الوزراء العراقي، لكنّه لم ينجح في ذلك، خصوصا أن القوات الحكومية، بما في ذلك القوّات الخاصة وقوّات مكافحة الإرهاب، نجحت في منع “الحشد” من السيطرة على “المنطقة الخضراء” في بغداد.
انتهى الأمر بمجيء إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني إلى بغداد حيث التقى رئيس الجمهوريّة برهم صالح ورئيس الوزراء. ترافق وصول قاآني إلى بغداد مع صدور أمر قضائي بإطلاق قاسم مصلح.
يوحي ذلك بأنّ قائد “فيلق القدس” ما زال الآمر الناهي في العراق وأنّ كلمته هي الكلمة الفصل، في حين أن إيران استخدمت نفوذها عبر القضاء لإطلاق المسؤول في “الحشد الشعبي”. أعطى قاآني انطباعا بأنّ تفاهما حصل مع برهم صالح ومصطفى الكاظمي، في حين أن ثمّة من يؤكّد أن هذا لم يحصل وأنّه، بمجرّد مغادرة قائد “فيلق القدس” لبغداد، أطلقت صواريخ في اتجاه قاعدة جوّية فيها عدد من الأميركيين. القاعدة المستهدفة غير بعيدة عن مطار بغداد.
للمقارنة فقط، حصل قبل أشهر قليلة أن أفراد خليّة تابعة لإحدى الميليشيات العراقيّة التابعة لإيران أوقفوا بعد إطلاق صواريخ في اتجاه هدف أميركي في بغداد. لم تمض ثلاثة أيّام إلّا وأطلق هؤلاء بعدما اجتاح “الحشد الشعبي” “المنطقة الخضراء” في العاصمة وكاد أفراده يدخلون منزل مصطفى الكاظمي.
لا يعني ذلك أن معجزة حصلت وأنّ الأمور تغيّرت كلّيا وأن النفوذ الإيراني تراجع لمجرّد أن قاسم مصلح أمضى أسبوعين موقوفا. يعني تسلسل الأحداث أن المواجهة ما زالت مؤجلة في العراق من جهة وأن تطورا إيجابيا حصل على صعيد أداء المؤسسة العسكريّة عموما من جهة أخرى.
لا يمكن القول إن أيّا من الطرفين حسم الوضع لمصلحته. على العكس من ذلك، يمكن التكهّن بأن العراق ما زال يقاوم وأنّه يرفض فرض التجربة الإيرانيّة عليه فيصبح “الحشد الشعبي” على أرضه مثل “الحرس الثوري” في أنحاء “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
إنّها بالفعل أيّام مهمّة يمر فيها العراق الذي عليه إثبات أنّه يرفض أن يكون مجرّد تابع لإيران. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه أن كلّ ما يجري حاليا، بما في ذلك محاولة العراق الإفلات من براثن “الحشد الشعبي”، يدلّ على أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في وضع لا تحسد عليه. احتاجت إيران إلى أسبوعين كي تطلق قاسم مصلح الذي يرمز إلى الأسلوب الذي تستخدمه أدواتها في تدجين العراقيين.
يبدو واضحا أن النفوذ الإيراني في العراق يتراجع وإنْ ببطء شديد. لكن ما يبدو واضحا أكثر وجود رفض عراقي متزايد لهذا الوجود فيما تحتاج إيران إلى ورقتها العراقيّة أكثر من أيّ وقت. تحتاج إلى هذه الورقة بسبب الأزمة الاقتصادية في الداخل الإيراني من جهة وبسبب المفاوضات التي تجريها مع الإدارة الأميركية من جهة أخرى.
كلّما طالت هذه المفاوضات شعرت إيران بالحاجة إلى أوراقها الإقليمية. نراها حاليا تصعّد في اليمن حيث يتابع الحوثيون هجومهم على مأرب في محاولة واضحة لفرض أمر واقع على الأرض. نراها تصعّد في لبنان. هذا ما تبيّن من الخطاب الأخير لحسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” الذي كشف أن الدولة اللبنانية تحت سيطرته تماما، خصوصا عندما تحدّث عن الإتيان ببواخر تحمل نفطا إيرانيا إلى لبنان وإدخالها بالقوّة عبر مرفأ بيروت.
المهمّ في كلام نصرالله استخفافه بالذين في السلطة في لبنان، بدءا برئيس الجمهوريّة، وتأكيده أن “حزب الله” يسيطر على البلد وذلك حتّى عندما يبيع اللبنانيين أوهاما من نوع بواخر النفط الإيرانيّة!
أكثر من أيّ وقت تبدو إيران في حاجة إلى إثبات أنّها صاحبة الكلمة الأخيرة في العراق. في النهاية، يلعب العراق دورا مهمّا في التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصاديّة الإيرانية، التي تعني أوّل ما تعني فشلا لنظام يمتلك مشروعا توسعيّا لكنّ تبيّن أن ليس لديه من نموذج يصدّره إلى خارج أراضيه… باستثناء الميليشيات المذهبيّة.
لا شكّ أن العراق يقاوم النفوذ الإيراني. ما لا يمكن تجاهله في أيّ وقت أن برهم صالح ومصطفى الكاظمي ليسا معاديين لإيران، بل يسعيان إلى علاقات متوازنة بين العراق وجيرانه القريبين والبعيدين. في المقابل، يظهر أن إيران، بسبب حاجتها الشديدة إلى العراق، لا يمكن أن تقبل أيّ حلّ وسط. هذا ما يجعل وجودها في العراق الذي هو جسرها إلى سوريا وجسر العملات الصعبة إليها، معركة حياة أو موت بالنسبة إلى نظامها. يزداد هذا النظام شراسة وتشدّدا يوما بعد يوم في ظلّ إدارة أميركية تسعى بالفعل إلى عقد صفقة معه لكنّها لا تبدو مستعجلة إلى ذلك.
يعود التباطؤ الأميركي، مع ما يعنيه من تأخير لرفع العقوبات عن “الجمهوريّة الإسلاميّة”، إلى عوامل عدّة. من بين العوامل الحاجة إلى بحث جدّي في مستقبل الصواريخ الباليستية الإيرانية التي باتت تهدّد كلّ دولة من دول المنطقة وليس فقط وضع قيود على البرنامج النووي الإيراني.
في انتظار وضوح الصورة، يبدو مجدّدا أن معركة العراق آتية لا محالة. هل تنتصر إيران عن طريق “الحشد” أم ينتصر الجيش العراقي والقوات الأخرى التابعة للحكومة. إنّها معركة الدولة التي لا تستطيع التعايش مع الميليشيات… وهي معركة العراق بامتياز. هل العراق دولة أم لا؟
العرب
مشاهدة 1867
|