تلجأ حكومات وأنظمة، أحيانا، إلى الاستعانة بالإرهاب، لتحقيق أهدافٍ مرحلية. ليس في الأمر سر. حتى أميركا التي تدّعي مناهضة الإرهاب ومحاربته، استعانت وتستعين به، مع كل ما يمثله من خطر على الجهة التي تستعين بهذا الإرهاب وفصائله الممتدة والمعروفة، والتي لا تؤمن بحوار، ولا تعترف بحدود، ولا تذعن لرغبة أحد سوى رغبة أهدافها التي، وإن تطابقت مع هذا الطرف أو ذاك اليوم، فإنها سرعان ما تنقلب ضده. حدث هذا وما زال يحدث في شمال العراق، حيث فتحت حكومة بغداد، بضغط إيراني واضح، الباب على مصراعيه لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا على لائحة الإرهاب، فاتخذ مقاتلو التنظيم من جبل سنجار مقرّا لهم قبل أن ينزلوا من الجبل، ليتمركزوا في داخل منطقة سنجار في أثناء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حينها كان دوره مرحبا به من الجميع، غير أن الأمر لم يتوقف عند حدود مشاركة هذا الحزب في القتال ضد "داعش"، بل تطور الأمر كثيرا، وبات خارج سياق المألوف، حتى في إطار رعاية بعض الدول معارضي دول أخرى جرت على مر التاريخ.
احتضنت حكومة بغداد التنظيم، وصرفت لمقاتليه رواتب، كجزء من مناكفتها إقليم كردستان في شمال العراق، وأيضا كجزء من مناكفة سياسية مع تركيا، أرادتها إيران، فتمركز مقاتلوه في منطقة سنجار. والأدهى أن حكومة بغداد استعانت بمقاتلي التنظيم للعمل ضد أكراد العراق في كركوك، المدينة التي يعتقد أكراد العراق أنها جزء من إقليمهم، ووصل الأمر إلى أن مقاتلي هذا التنظيم تم تجنيس بعضهم، ورشّحوا للانتخابات التي جرت في عام 2018، في تصرّفٍ يعوزه كثير من الحكمة السياسية، ناهيك عن أنه تصرّفٌ أثار تركيا، الجارة الشمالية للعراق، كما أثار حفيظة أكراد العراق.
واصلت تركيا، التي ترى في التنظيم الكردي التركي المسلح تهديدا إرهابيا لها، منذ سنوات، عملياتها ضده داخل الأراضي العراقية، مستندةً إلى اتفاقية قديمة وقعتها بغداد وأنقرة
في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقعت حكومتا بغداد وأربيل اتفاقا عرف باتفاق سنجار، وكان يقضي بإخراج كل القوات المسلحة غير النظامية من سنجار، حيث يتمركز مقاتلو الحزب الكردستاني التركي، وأن تستعيد القوات الاتحادية السيطرة على هذه المنطقة الحيوية، والعمل على تأهيلها واستعادة الأمن فيها، بعد أن تحوّلت إلى بؤرة عنف وعمل مسلح. غير أن هذا الاتفاق، وعلى الرغم من مضي عدة أشهر على إبرامه، لم ينفذ منه شيء على أرض الواقع، بحسب ما أعلنه وزير داخلية إقليم كردستان العراق، ربير أحمد، في إبريل/ نيسان الماضي، والذي أكد أن أعداد مقاتلي "العمال الكردستاني"، في ازدياد، من دون أن تُقدم حكومة بغداد على أي رد فعل تجاه هذا الجيب الذي بات فعليا خارج سيطرة بغداد منذ سنوات.
تركيا التي ترى في هذا التنظيم الكردي التركي المسلح تهديدا إرهابيا لها واصلت، منذ سنوات، عملياتها ضده داخل الأراضي العراقية، مستندةً إلى اتفاقية قديمة وقعتها بغداد وأنقرة، تقضي بمطاردة كل دولة العناصر المسلحة داخل حدود الدولة الأخرى، طالما أن تلك العناصر تمثل تهديدا لأمنها وسلامتها. ولم تكترث تركيا لبياناتٍ كثيرة صدرت من بغداد مندّدة ومستنكرة لمثل هذا الاندفاع داخل الحدود العراقية، فأنقرة تطبق ما جاء في اتفاقيتها القديمة مع بغداد. وأكثر من ذلك هي تدرك جيدا أن ليس لدى حكومة بغداد القدرة، أو حتى النية، لإنهاء وجود هذا التنظيم طالما بقيت سياسات بغداد خاضعةً لإرادة طهران التي ترى في هذا التنظيم ورقةً تستخدمها ضد تركيا كلما احتاجت لها. وقد تمادى عناصر التنظيم الكردي التركي المسلح، فلم يكتفوا بتهديد تركيا، بل وصل بهم الأمر إلى الدخول في مواجهاتٍ مباشرة مع قوات البيشمركة الكردية في شمال العراق، كما حصل مطلع الأسبوع الجاري، عندما شن التنظيم عملية مسلحة، أدت إلى مقتل خمسةٍ من عناصر قوات البيشمركة الكردية العراقية.
باتت المواجهة المسلحة ضد عناصر "العمال الكردستاني" مطلوبة، وطرد هؤلاء المقاتلين بات ملحا، ليس من أجل تلافي مزيد من التوغل التركي في الأراضي العراقية، حيث تفيد مصادر بأن تركيا توغلت أكثر من 60 كيلومترا داخل الأراضي العراقية، وإنما حمايةً لأمن العراق بعد أن بات هذا التنظيم خاضعا بالكامل لإرادة طهران التي ترفض أي مسٍّ به من حكومة بغداد.
قد لا تكون حكومة مصطفى الكاظمي معنيةً، في هذا التوقيت بالذات، في فتح جبهة مواجهة جديدة مع حزب العمال الكردستاني، فهي ترى في بغداد المعركة الأكثر خطورةً وأهميةً من التي يمكن أن تقع في أقاصي الشمال العراقي، خصوصا بعد أن كشّرت المليشيات الشيعية الموالية لإيران عن أنيابها تجاه حكومة الكاظمي، لكن ذلك سيعني، من بين ما يعنيه، مزيدا من التوغل التركي داخل الأراضي العراقية، وأيضا مواجهاتٍ قد تندلع، في أي وقت، بين قوات البيشمركة الكردية وحزب العمال الكردستاني، وهو ما قد يجعل الإقليم خصما للمليشيات الموالية لإيران التي سبق لها أن شنّت عدة هجمات صاروخية على مدينة أربيل.
لا يقلّ إرهاب العمال الكردستاني عن إرهاب "داعش". وبالتالي، لا بد من تحرّك دولي حيال هذا التنظيم، ولعل البيان الذي صدر عن السفارة الأميركية في بغداد، ودان هجوم "الكردستاني" على البيشمركة، يبقى بيانا باردا وباهتا، ولا يدلل على نية أميركية لمعاقبة هذا التنظيم أو حتى التحرّك لدعم اتفاق سنجار أو حتى على الأقل دعم قوات البيشمركة الكردية التي يبدو أنها ستكون قريبا رأس الحربة في محاربة هذا التنظيم المسلح الذي يمثل تهديدا حقيقيا لأمن شمال العراق الذي ما زال متماسكا، على الرغم من كل التداعيات التي شهدها العراق منذ 2003.
العربي الجديد
مشاهدة 1924
|